الأربعاء، 27 مايو 2009

مدخل لباب الإنساني بين الوحدة والكثرة

ما الإنسان؟
ليس سؤال الإنسان عن ذاته بالسؤال المستحدث أو بالسؤال المصطنع.
ليس بالسؤال المصطنع من جهة كونه يتعلق بخصوصية الوضع الإنساني، باعتباره وضع يرتبط بتلازمه مع خاصية الوعي الذي يرتبط بهذا الوجود ،وعي يستشعر من خلاله الإنسان حاجته للمعرفة: معرفة ذاته، وموضع هذه الذات في الوجود. إن السؤال الذي يقود إلى هذا الوعي لا يعبر مطلقا عن ترف فكري (ذلك ما تشهد به على الأقل تاريخية الوضع الإنساني إذ حضر سؤال الإنسان عن ذاته ووضعه منذ بدايات تشكل الوعي الإنساني وفي لحظة، مازال فيها، خاضع بشكل مطلق لمحيطه الطبيعي، يصارع من اجل حفظ بقائه و ضمن الشروط الدنيا لحفظ البقاء ) وإنما ، يعبر طرح هذا السؤال، عن حاجة ملحة لتحصيل اليقين والاطمئنان معرفيا ووجوديا؛ اطمئنان لا يستقيم وجود الإنسان دون تحققه. إن تجربتنا الشخصية، ذاتها، تثبت لنا إن مناسبات طرح السؤال غالبا ما اقترنت بأشد تجاربنا مأساوية وحدة. ذلك أن السؤال عن معنى وجودنا وغايته، وعن مصيرنا، وعن القضاء والقدر، وعن الموت غالبا ما يتشكل ضمن لحظات قلق وجودية ترتبط بالقلق والحيرة والخوف، كنتيجة للشعور بالمرارة والعجز والإحساس بالفشل. ( أنظر قصيدة الشاعر إليا أبو ماضي " لست أدري" مثلا) فيكون طرح هذه الأسئلة ومحاولة البحث عنها، في بعض وجوه، بمثابة البحث عن استعادة حب الحياة ذاتها، وإرادة الاستمرار فيها.
وسؤال الإنسان عن ذاته ليس بالسؤال المستحدث ،كذلك،من جهة كونه سؤال ينغرس في عمق الوعي البشري وهو ما يشهد عليه مضمون الفكر الأسطوري؛أول أشكال الوعي البشري وأقدمها. بل لعل الوعي الإنساني، ذاته، ما كان انبجاسه غير استجابة وتقاطع مع هذا السؤال ؛ذلك ما يشهد عليه، صراحة ، مضمون هذه الأساطير( أنظر أسطورة قلقامش:الوضعية الاستكشافية الثانية في الكتاب المدرسي).لا يتعلق الأمر بالأسطورة وحدها فالحال ذاته بالنسبة لمختلف أشكال الوعي البشري الأخرى من فن ودين وفلسفة وعلم؛ إذ يضل محور الاهتمام فيها جميعا الإنسان، رغم فروق أوجه الاهتمام وكيفية تناول السؤال وطبيعة الجواب المفترض له.
أمام هذا الإقرار بكثافة حضور سؤال ما الإنسان داخل كل أشكال الوعي البشري، وعلى امتداد كامل تاريخ هذا الوعي، يفترض بنا أن نتساءل عن وجاهة وخصوصية المقاربة الفلسفية لهذا السؤال؟ إن إقرارنا منذ البداية بكون سؤال الإنسان عن نفسه ليس بالسؤال المستحدث أو المصطنع في تأكيد بتعلق السؤال بكامل التجربة الإنسانية في مختلف أشكالها وتجلياتها، يفترض أن السؤال ليس سؤالا فلسفيا خالصا، تتميز به الفلسفة وتحتكره، غير أن ما يجب الانتباه إليه كذلك أن هذا الاشتراك ما بين الفلسفة ومختلف أشكال الوعي البشري، لا يفيد مطلقا تماثل حيثيات طرح السؤال ما بين الفلسفة وبقية أشكال الوعي الأخرى.
يتعلق الأمر باختلافات، قد تتفاوت درجتها ما بين الفلسفة وأحد أشكال الوعي كل على حدة، كما معها جميعا، لكنها تضل في كل الحالات اختلافات أساسية ترتبط بخصوصية الخطاب الفلسفي ذاته.

يمكن أن نرد هذا الاختلاف الأساسي، إلى خصوصية، وطبيعة الخطاب الفلسفي ذاته. تتجلى هذه الخصوصية في مستويات متعددة، غير أنها تدور جميعا حول مفهوم الكلي. إن ما يكسب الفلسفة خصوصيتها كنمط من التفكير، ليس في مسألة الإنسان فقط، ولكن فيما يعود على مجمل خطابها وقضاياها، إنما تشكل هذا الخطاب حول مفهوم الكلي؛ الكلي كمبدأ للتعقل والكلي كمطلب والكلي كرهان.
ضمن أية حدود يتشكل الكلي كمبدأ ومطلب ورهان في إطار التفكير في الإنسان؟

يتعلق الأمر بداية بتجاوز البداهة الخادعة التي تجعلنا نستشعر وضوح وبداهة الجواب عن السؤال. بداهة زائفة وخادعة من جهة ارتباطها بالتجربة الحسية والذاتية المباشرة، إذ تنتهي هذه التجربة إلى إثبات وجودنا وتحديد لحقيقة هذا الوجود من خلال ما نستشعره من وحدة وتواصل ومباشرة حضور " الأنا" في خضم تجربة اليومي ، وهو إحساس بحضور وبداهة هذه الأنا يجد إثباته في تماسك هذا الحضور رغم تغير حالات الأنا النفسية والجسدية وأشكال ارتباطها باليومي.
تبرز المغالطة التي يقوم عليها هذا التحديد في إرجاع السؤال عن الإنسان إلى مستوى وجود حسي وجزئي ومباشر ، يرتبط بتجربة وخصوصية تتقوم بما هو انفعالي وذاتي، من جهة أولى؛ ذلك إن كان هذا الرد وإن كان يقول لنا شيئا عن " زيد " أو عمر" بغض النظر عن قيمة ما يقوله ، فان زيد أو عمر لا يمكن أن يدللا على ما يمكن أن يكون عليه الإنسان بإطلاق، الذي هو مطلبنا.
أما من جهة ثانية فالمغالطة الثانية التي يقوم عليها مثل هذا التحديد فتتعلق بالتناقضات التي تحكم هذا الموقف ذاته. إن النظر إلى الإنسان بما هو ذات متعينة في فرد بعينه ، مع افتراض وحدة وثبات أناه، وفي نفس الوقت ربط هذا الوجود بتجربة اليومي مع ما تفترضه من تقاطعات وعلاقات وثيقة بالعالم والآخر والجسد، يغفل عن تحديد مقومات هذه الأنا من جهة علاقتها بهذه المحددات التي يرتبط وجود الفرد بها.
يتعين الإحراج في نهاية الأمر، إن عمدنا إلى إعادة صياغة الاعتراضات السابقة صياغة فلسفية، بالتساؤل عن حقيقة هذه الأنا بين حدي " الوحدة والكثرة"؛ وحدة تتجلى فيما أستشعره من وحدة أنايا واستمرارها وثباتها رغم تغير أحوالها، وكثرة تتجلى في ارتباط وجود هذه الأنا بأكثر من مجال ومستوى وعلاقة.. لا يتعلق السؤال عن حقيقة الأنا بين الوحدة والكثرة بالسؤال عن أنا فردية وعينية، ولكن بالبحث عن مقومات الوجود الإنساني ذاته. وبعبارة أكثر دقة ومباشرة يتعلق السؤال بتحديد ما يشكل حقيقة الإنسان من جهة تعيين ما يتمايز/يختلف به بشكل مطلق عن الوجود الحيواني، فيكون هذا التمايز هو أساس وضع الخط الفاصل بين الوجود الإنساني من جهة والوجود الحيواني من جهة ثانية.
لا يتعلق السؤال، بالسؤال إذن عن أنا فردية وعينية وإنما يتعلق بالسؤال عن " الإنساني". يجب أن ننتبه في هذا المستوى إلى وقوع تحول أساسي في مستوى صياغة السؤال عن الإنسان من التفكير في مسألة الإنسان إلى التفكير في "الإنساني". فما هو مبرر هذا التحول في الصياغة؟ وماهي استتباعات هذا التحول في تحديد خصوصية ورهان الاستشكال الفلسفي للتفكير في الإنسان؟
ارتبط السؤال الفلسفي تقليديا عن الإنسان بصياغة مخصوصة تسأل عن الإنسان اعتمادا على صيغة " ما هو الإنسان؟"، صياغة ستجد تعبيرها النهائي في التحديد الكانطي لرهان الفلسفة وسؤالها الأساسي الذي ترجع إليه بقية الأسئلة في سؤال " ما الإنسان؟". تفترض هذه الصيغة التفكير في الإنسان من جهة الماهية واثبات ماهية مطلقة ومتعالية للإنسان. غير أنه ومنذ لحظة هيقل المرتبطة بالتفكير في الإنسان في علاقة بالعالم والآخر سيصبح هذا التحديد الماهوي القائم على الصياغة الميتافيزيقية لسؤال " ما هو الإنسان؟" صياغة لا شرعية من جهة كونها لا تقبل التفكير في الإنسان ككثرة ايجابية.بذلك ستستعيض الفلسفة عن الصياغة الكانطية للسؤال عن الإنسان " ما هو الإنسان؟" إلى صياغة مستحدثة للسؤال هي صياغة " من هو الإنسان؟" صياغة، كما سنرى، ستسمح بالتفكير في الإنسان من جهة الكثرة المنفتحة وليس الوحدة المنغلقة ، من جهة شروط وكيفيات تحقق الوجود الإنساني فعليا وواقعيا وليس النظر إلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان. على هذا الأساس فان اعتماد مفهوم الإنساني عوضا عن صياغة أولى، تسأل عن الإنسان بإطلاق، إنما يحيل إلى هذا الوعي بما يكتنف المسألة من غموض وتعقيد. وهي محاولة لتشريع البحث في الإنسان انطلاقا من صياغة محايدة تحاول استشكال كلا المقاربتين للتفكير في الإنسان والتثبت من إمكان الارتقاء بالوجود الإنساني إلى مستوى الكوني وتحديد صعوبات واحراجات هذا المطلب.
إن ربط مطلب الكلي بالإنساني، وان بدا انه يتقدم بنا خطوة حاسمة في اتجاه مقاربة سؤال ما الإنسان، فانه لا يخلو من استشكال حين يكون حدي "الإنساني" تقابل مفترض بين "الوحدة" و"الكثرة".
إذا كان معنى" الإنساني" يمكننا أن نتجاوز، لحظة، تعقيدات التردد بين صيغتين مختلفتين للسؤال عن الإنسان ؛بين صيغة "ماهو الإنسان؟" ذات الطابع الماهوي والأفق الميتافيزيقي الكلاسيكي،وصيغة "من هو الإنسان؟"الأكثر معاصرة، فان ربط الإنساني بحدين يفترض فيهما التقابل وليس التقاطع؛"الوحدة" من جهة و"الكثرة" من جهة ثانية،يحيلنا إلى مزالق لا تقل حدة نظرا لما يترتب عن استتباع هذا التقابل على تحديد دلالة الكلي/الكوني سواء تعلق الأمر باستتباعات معرفية أو خاصة ايتيقية قيمية تتعلق بما سبق وان حددناه من رهان مركزي لمقاربة الفلسفة لمسالة الإنسان وتحديدا تعيين شروط العيش المشترك.
إن ربط الكلي بالوحدة يربط "الإنساني"بما هو جوهري؛ فالإنساني يتعين كجوهر قائم بذاته؛ مطلق وثابت وهو تصور الإنسان الذي طبع تاريخ الفلسفة منذ الفلسفة اليونانية إلى حدود لحظة الحداثة مع هيقل ، "حيث أنّ النفس لدى اليونان، مثلها مثل "الذات" أو "الأنا" لدى المحدثين، هي "جوهر" قائم بنفسه، أي هو "حامل" منطقي وأنطولوجي لصفات أو أعراض متعددة لا توجد إلا به، في حين أنّه هو مستغن عنها في استمرار وجوده لأنها ليست من مقومات ذاته".بذلك فان الإنسان يتقوم بماهيته وينظر إليه من جهة هذه الماهية التي يحملها. مقابل هذه الماهية، والتي سواء تعينت كنفس عاقلة عند القدامى، أو كذات أو أنا عند المحدثين فان الكثرة لا تتجاوز مرتبة ما هو عرضي. إن الكثرة، أن كانت داخلية؛ الجسد والرغبات والأهواء، أو خارجية؛ العالم والآخر، هي مجرد أعراض. فهي وان ارتبطت فعليا بالوجود الإنساني، و تعلقت بالإنسان فإنها لا تدخل في تعيين حقيقته لا على المستوى المعرفي ولا على المستوى الأنطولوجي، ذلك أن معرفتها كما وجودها يضلان مشروطان بمعرفة ووجود الماهية من جهة أولى، إما من جهة ثانية فان الجهل بمعرفتها أو وجودها لا يربك يقيننا في معرفة ووجود الماهية(سواء كانت نفس أو ذات أو أنا).
إن تحديد "الإنساني" تحديدا ماهويا يرتبط بالوحدة ويستبعد الكثرة يتشكل معه مطلب الكلي ذاته ماهويا.يفترض هذا التحديد الماهوي للإنسان تراتبا داخل الوجود فليس للموجودات نفس المرتبة والمنزلة الأنطولوجية. وليس التأكيد على أفضلية النفس أو تعالي الذات غير بحثا يبتغي تأكيد واثبات رفعة المنزلة الإنسانية.

فحقيقة الإنسان وجوهره،أي إنيته وفق هذا التصور، كما وجوده الفعلي، يشترط هذه الوحدة التي تتعين في ماهيته بما هو جوهر قائم بذاته ومكتف بها. أما "الخارجات"،وسواء كانت داخلية أو خارجية فهي "غير" وإطارها "الغيرية" أي غير "الإنساني" إذ لا يشترط في تحديد الإنساني حضورها، وهي بذلك لا ترتقي إلى مستوى الكوني/الكلي، بل إن منزلتها العرضية، تلك، تمثل من بعض الوجوه عائقا يحول دون تحقق الإنساني في الإنسان على وجه كلي/كوني.
هذا الربط بين الانية ووحدة النفس العاقلة ،داخل الفلسفة القديمة،أو الذات، داخل الفلسفة الحديثة، بحثا على إثبات رفعة المنزلة الإنسانية وشرفها، أو تأكيدا على فاعليتها، لا يمثل في ذاته مشكلا من جهة كونه رهانا ومطلبا مشروعا، إنما يعود الإشكال الحقيقي في السؤال عن مشروعية هذا الاختزال الذي يسم هذه الانية، والإمكان الفعلي والايتيقي لاستبعاد "الجسد" و"العالم" و"التاريخ" و"الآخر" من مجال تحديد الإنساني في علاقة بمطلب الكلي.
إن تجليات الوجود الإنساني تبرز لنا وبشكل مباشر خصوصية هذا الوجود الذي هو وجود علائقي و تعددي.إذ أن التحديد السابق للإنية واشتراط إمكان إثبات وجود الأنا ، ومعرفتها في تعلقه بضرورة اعتبار هذه الانية مطلقة ومتعالية وثابة ، يضعنا أمام إحراج متعدد الطبقات. يمكن أن نختزل مجمل هذه الاحراجات فيما سبق وأن حددناه من مقتضى التفكير في مسألة الإنسان ؛ أي ربط هذا التفكير بمطلب الكلي، بما هو بحث عن شروط إمكان التأسيس لمطلب العيش المشترك كرهان إيتيقي أقصى، هو أفق ومقتضى البحث ذاته، يستلزم ، ضرورة رفض كل أنانة تقيم حاجزا بينها وبين الآخر. إن تحديد مقتضى العيش المشترك كأفق للنظر في الإنسان على أساسه يكون تناوله من جهة البحث عن الإنساني هو إقرار بكون مقاربة الإنساني تستلزم النظر في كثافة وجود الإنسان كثافة تتجلى في تعدد العلاقات التي يرتبط بها ويتداخل في ضلها وجوده وتتحدد بها ومن خلالها إنيته.
يرتبط النظر في " الإنساني بين الوحدة والكثرة"، إذن، بالتوتر القائم بين النظر للإنسان كهوية تعين تمايزه وتفرده يعود هذا التحول إلى الوعي بما يكتنف الوجود الإنساني من مفارقات ضمن مطلب الكلي. ذلك أن تحديد هذا الكلي في مستوى التفكير في الإنسان مربوط إلى التوتر القائم في مقاربة " الإنسان" بحدود مسألة "الوحدة والكثرة". فان كانت الوحدة تفترض في الإنية كحالة وجودية، تؤسس لما يجعل من الذات موجودا لأحل ذاته( بتعبير سارتر) متميز في خصوصية وحدته عن غيره، من أجل التفرد ضدا على التشابه والنمطية، على غرار نمطية الأشياء الموجود في ذاتها، من جهة والنظر لهذا الوجود باعتباره ثابت ومطلق ومتعال من جهة ثانية. ولكنها تنفتح به في نفس الوقت على وجوده كموجود في الوجود في بعده التعددي والعلائقي. بذلك تكون الكثرة حالة وجودية علائقي تخرج فيها الذات عن ذاتها المنغلقة على ذاتها والمكتفية بذاتها نحو التاريخ والجسد والغير، دون أن يعني خروجها هذا، خروجا عن ذاتها أصلا، وإنما هو خروج يمثل شرط إمكان معرفة ذاتها واثبات وجودها بما يحقق إنيتها.
هذا الربط بين " الوحدة" و " الكثرة" في تعيين "الإنساني " يستلزم النظر إلى الحدين لا على أساس التباعد والتنابذ وإنما التجاذب والتفاعل ايجابيا بما يثبت أن الانية لا تكون إلا "هوية مركبة".

إن اشتراط تحقق الإنية بضرورة خروج الذات عن ذاتها، وانفتاحها على " الآخر"؛"عالما" و "أنسانا"، بقدر ما يقيم وصلا بين الأنا" و الغير ورفعه لدرجة الآخر الذي لا أكون إلا به، يستوجب النظر في تحديد شروط وآليات ومقتضيات التواصل التي تجعل من تأسيس الإنساني تأسيسا يراهن ويحقق مطلب العيش المشترك.
إن رد الوحدة إلى كثرة لا يعني تلاشي الأنا و ضياعه في كثرة تطمس وحدته وتنفي تمايزه وخصوصيته، وإنما يعود هذا الرد إلى تأسيس وضع هذا الأنا في إطار ما ينسجه من علاقات تواصلية مع الآخر. يتعلق الأمر إذن بجدلية فصل ووصل؛ فصل يثبت للانية وحدتها وتفردها، ووصل يشرط هذه الوحدة والتمايز بالتواصل مع الآخر.
يتحدد مفهوم التواصل بداية باعتباره المقتضى الذي بقدر ما يستبطن ويفترض الفصل وتمايز الأنا، يمثل في نفس الوقت شرط إمكان تحقق الوصل؛ إنه بهذا المعنى " وساطة" وجسر.التواصل الإنساني هو "وساطة" لا من جهة النظر إليه كأداة، وإنما باعتباره، في نفس الوقت، التجلي والمقتضى لتحقق الإنساني على وجه كوني. فالتواصل هو تواصل إنساني من جهتين: من جهة أنه يقيم خطا فاصلا بين الوجود الإنساني و "الطبيعة" إذ إذ تشكل وسائط التواصل قطعا وتعاليا على مستوى الوجود الطبيعي الخام من خلال ما يضمنه من علاقة غير مباشرة بين الإنسان والطبيعة. فالتواصل بما هو خاصية إنسانية هو خاصية ينفرد بها الإنسان وتهبه نمط وجود يختلف جذريا عن نمط الوجود الحيواني. وهو تواصل إنساني من جهة ما يضمنه من إمكانات تحقق تواصل كوني بين الإنسان والإنسان. إن التواصل لا يلغي التمايز والاختلاف والتفرد، بل لعله لا يكون ممكنا أصلا، ولا ذا معنى دون الإقرار بهذا التمايز بين الأنا والآخر تمايزا يجعل من التواصل ، في نفس الوقت ممكنا ومطلبا. إننا ، وكما تبرز لنا ذلك تجربتنا الخاصة، لا نتواصل مع الغريب بإطلاق لانعدام إمكان التواصل أصلا، ولا نتواصل مع الشبيه بإطلاق لعدم الحاجة للتواصل معه كذلك أصلا التواصل لا يكون إذن إلا مع المختلف والذي يحوز منزلة بين منزلتين؛ منزلة الغريب ومنزلة المماثل.
يتحدد التواصل بما هو إنساني في تشكله عبر وسائط رمزية هي "الأنظمة الرمزية". وهي وسائط بما هي جسور ، بقدر ما تثبت وتعين وجود مسافة بين الأنا والآخر فإنها، وفي نفس الوقت، تجعل من قطع المسافة ممكنا والاقتراب من الآخر يسيرا. إن هذا التواصل بما هو إنساني من حيث المجال والآليات والغايات إنما يتأسس على وحدة الإنساني ذاته. إمكان التواصل وتحقيق الالتقاء والتفاهم يضل مشروطا بداية بمقتضى الوحدة، وحدة تجد سندها في وحدة الوضع البشري، وخصوصية هذا الوضع، بما هو وضع متعال ومفارق يؤسس لوجوده بتحقيق انفصاله عن مستوى الوجود الطبيعي. وهو بتعيينه للمنزلة الإنسانية في قطعها مع مستوى الوجود الطبيعي، إنما يؤسس في آن واحد للانفتاح على الغير.
يتجلى هذا الانقطاع فيما يميز علاقة الإنسان بالأشياء إذ تتحدد هذه العلاقة بما هي علاقة غير مباشرة تنتظم ضمن وسائط تكون هي الوسيط بين الإنسان والأشياء. إننا لا نقبل على الأشياء مباشرة ولكن بتوسط الرموز التي يصنعها الإنسان ويستحدثها فتكون علاقته لا بالأشياء في ذاتها وإنما بالرموز التي تحيل عليها.


قد لا تكون مسألة التواصل على هذا القدر من الوضوح، ولا على هذا القدر من البساطة. إذا كان مفهوم التواصل يحيلنا بداية إلى عملية ثلاثية الأبعاد تتركب وتقتضي توفر ثلاثة معطيات مرسل و رسالة والمرسل إليه.
غير أن ما يجب الانتباه إليه هو مدى التعقيد الذي يلف هذه العملية في كل أجزائها، ذلك أننا وسواء تعلق الأمر بالمرسل أو المرسل إليه فإننا في الحالتين أمام ذات واعية أمام ذوات واعية. الذات المرسلة لا يتعلق فعلها بمجرد الإخبار المحايد وإنما تبحث من رسالتها على إحداث تأثير محدد في المتلقي تتحقق به مصلحة ما، بغض النظر عن طبيعة هذه المصلحة إن كانت مادية أو معنوية. والذات المتقبلة ذاتها لا تقبل الرسالة على أساس من الشفافية المطلقة وإما من خلال عمل تأويلي يسبغ على الرسالة ، عن قصد أو دونه، معطيات ذاتية تبتعد قليلا أو كثيرا عن مقصد المرسل. والرسالة ذاتها غالبا ما لا تكون واضحة و أحادية المعنى، لا من جهة الالتباس التي يحكمها في علاقة بمقاصد المرسل أو تأويل المرسل إليه، وإنما في علاقة بطبيعة قناة الاتصال التي تحمل الرسالة، و التي تؤثر في مضمون الرسالة حسب خصوصية قناة الاتصال ذاتها .
إن مجمل هذه التعقيدات تلبس مسألة التواصل كثافة إشكالية مركبة من جهة تعدد المفارقات التي تشقها وتنوع الرهانات التي تعمل على التأسيس لها.
تبرز أهم هذه المفارقات، من جهة راهن المسألة، فيما هو مفترض في التطور التقني لوسائل الاتصال من تيسير لإمكانات التواصل بشكل لم تعهده البشرية من قبل، غير أن هذا التطور التقني ذاته أضحى في حضارتنا المعاصرة المرتبطة بتنامي النزعات الفردية وغلبة المصلحة والمنفعة الشخصية أداة وتجليا لواقع الانفصال والعزلة ورفض الآخر.إن مثال الانترنت يعد في هذا الإطار أبلغ مثال لواقع المفارقة هذا؛ فعالم الانترنت بقدر ما يتيح لنا إمكانات اللقاء مع الآخر خارج حدود الثقافة والجغرافيا فانه ، وفي نفس الوقت، يعزل الفرد عن الآخرين ، حتى أقرب أقربائه . والحال ذاته يصح على السيارة التي وان كان مفترض فيها أن تجعل من التواصل أيسر و أسرع فان السيارة ومع تزايد وسائل الرفاهية داخلها تخلق عالما خاصا وحميميا يعزل السائق والراكب عن الآخرين .
بالإضافة لهذه المفارقات، فان رهانات التواصل ذاتها لا تقل تناقضا. إن التواصل بقدر ما يمكن أن يشرع للالتقاء مع الآخر وتحقيق التفاهم معه، فان التواصل كذلك يمكن أن يراهن على السيطرة والهيمنة على الآخر.
إن تجاوز هذه المفارقات يستوجب النظر في دلالة التواصل ذاته، وتبين الخصوصية التي تؤسسه، وفي نفس الوقت، تشرعه في إطار مطلب الكوني. يتشكل التواصل مع الآخر، ضرورة بما هو آخر، من خلال وسائط.فما هي طبيعة هذه الوسائط التي تحقق إمكان التواصل مع الآخر؟
يتحدد التواصل الإنساني في علاقة مع جملة من الوسائط الرمزية من لغة ودين وصورة فهل يمكن لأنظمة التواصل هذه أن تحقق تواصلا كونيا يحقق الإنساني على وجه كلي ويضمنه أم أن أنظمة التواصل هذه تمثل خطرا وتهديدا حقيقيا لمطلب الكوني حين تكون أدواتها المغالطات بكل أشكالها ويكون رهانها التحكم والسيطرة؟ يتعلق الأمر إذن في نهاية الأمر بتحديد إيتيقا التواصل بما يكرس العيش المشترك.

لا يتعلق مطلب العيش المشترك بمستوى وجودنا الفردي حصرا، وإنما يتجاوزه إلى مطلب العيش المشترك في إطار الوجود الثقافي المشترك والعلاقة بين الثقافات المختلفة. إن هويتنا وان كانت أساسا هوية شخصية تفترض وتطلب إيتيقا تواصل، مع هوية شخصية مغايرة، تتأسس ذاتها في رحم الهوية الثقافية التي ينتمي لها الشخص، بذلك يكون وجودنا وجود ثقافي بالأساس. إلا أن دلالة الثقافة التي نقاربها في هذا المستوى لا تختزل في مقابل ماهو طبيعي، وإنما تتشكل في إطار " الهوية الثقافية" لمجموعة بشرية محددة.
يلتبس هذا الوجود الثقافي للإنسانية بمفارقات متعددة؛ فبقدر ما يحمل الإنسان داخله من نزوع نحو الكوني يربطه بالإنسانية جمعاء ، يؤشر على الوحدة، وعلى الوجود النوعي للإنسان في تمايزه عن الوجود الحيواني، فان واقع الوجود الثقافي الإنساني ذاته يتشكل في إطار كثرة متعين في تعدد وتنوع الثقافات. فكيف نفهم هذا الاجتماع في الإنسان بين واقع الكثرة؛ كثرة الثقافات وتنوعها ومطلب الوحدة؛ وحدة الثقافة الإنسانية ورهانها المتمثل في مطلب العيش المشترك المشروط بتكريس هذه الوحدة؟
إننا بصدد مفارقة قوامها واقع الخصوصية ومطلب الكونية.
وحين ننظر للواقع الإنساني وما يفرضه من وحدة حقيقية لتجاوز مشاكل الحروب والصراعات الدامية والتلوث البيئي والتسلح اللذان يهددان وجود البشرية من جهة، وتنامي روح التطرف القومي والتعصب الديني والهيمنة والسيطرة بأشكالها المتعددة السياسية والاقتصادية والثقافية ألا يجعل كل ذلك من النظر في المسألة أكثر من مبرر وإنما ضرورة لا يمكن تحقيق مطلب العيش المشترك إلا في إطارها؟
إن تحقق الإنساني على نحو كوني مشروط إذا بامتحان مدى قابلية التحديد الذي يمكن إن نظفيه على دلالة هذا الإنساني بضمان العيش المشترك بشكل يتوافق مع رهان الكلي أي فضح جميع الوضعيات التي لا تجعل من الإنسان قيمة مقدسة ولا تجعل من قيم الحق والعدل و الجمال والخير قيما مطلقة تؤسس الوجود الإنساني وتضفي عليه المعقولية.






الثلاثاء، 26 مايو 2009

معهد ابن رشد حي الرياض السنة الدراسية2008/2009
الأستاذ وحيد الغماري المستوى: رابعة شعب علمية

مسألة الدولة: السيادة والمواطنة

تمهيد: في ضرورة الدولة

إن تحقق الإنساني في الإنسان على نحو كوني، يفرض تجاوز الوجود الإنساني مستوى الوجود المرتبط بضمان الحاجات الضرورية، التي تضمن شروط حفظ البقاء. فتجاوز مستوى الوجود الطبيعي نحو الارتقاء إلى مستوى الوجود الإنساني يستلزم قيام مجتمع إنساني يكون للقيم في إطاره دلالة ومعنى. غير أننا سواء نظرنا إلى ضرورة الاجتماع الإنساني في علاقة بمبدأ التعاون والتقسيم الاجتماعي للعمل، أو في مستوى التأسيس لوجود ثقافي يرتبط بالقيم والمعنى، نلاحظ أن استمرار هذا الاجتماع وتماسكه وثباته يضل غير ممكنا، بسبب اختلاف وتعارض مصالح الأفراد وطباعهم وقيمهم.
يشترط تثبيت الوجود الاجتماعي تنظيم الشأن العام، ويحيلنا مفهوم الشأن العام إلى احد أبعاد الوجود الإنساني الأساسية المتمثلة في وجوده السياسي. يتحدد هذا الوجود السياسي بمقتضى تنظيم الشأن العام، أي المجال الذي تتقاطع فيه مصالح الأفراد تكاملا وتناقضا. فبقدر ما يجعلنا وجودنا الاجتماعي متعاونين متآلفين، باعتبار ارتباط مصلحتنا الخاصة بالآخرين، فان مصلحتنا الخاصة تكون دائما كذلك مقيدة بمصلحة الآخرين.
يستلزم تجاوز مجمل هذه العوائق التي تحول دون ثبات الاجتماع بما يحقق الغاية منه، توفر سلطة تكون قادرة على تنظيم الشأن العام، والتوفيق بين المصالح المتقابلة بين الأفراد بما يضمن استقرار المجتمع وتماسكه. تتحدد " السلطة بما هي البنية الأساسية للسياسي" (بول ريكور). إذ أن السلطة السياسية هي المقتضى الذي يضمن تنظيم الشأن العام. تقوم السلطة السياسية على أساس اقتران وجودها بالقوة، فهذا الاقتران هو الذي يوفر للسلطة إمكانات الفعل والتأثير القائمة على أدوات المراقبة والعقاب. دون توفر مثل هذه السلطة التي تكون قادرة على كبح جميع مظاهر العنف ومعاقبة كل من يتعدى على مقتضيات الوجود الاجتماعي يتحول هذا الوجود إلى فوضى مطلقة. على هذا الأساس يمكن تعريف الدولة من جهتين: من جهة توفرها على ثلاثة أركان هي الإقليم، والشعب، والسلطة السياسية (مؤسسات الدولة وأجهزتها من حكومة وشرطة وقضاء وجيش...) ومن جهة تمتعها بالسيادة بمعنى توفرها على سلطة وقدرة مطلقة لا تقبل القسمة ولا المشاركة ولا التجزئة بما يجعل من ممارستها للسلطة ممكنا.

1/ الدولة والسيادة
السيادة تتحدد إذا باعتبارها الخاصية المميزة لكل سلطة سياسية، وهي ما يضفي المشروعية على هذه السلطة بحيث تكون سلطة الدولة هي تجسيد لسياستها. هذا الربط بين سلطة الدولة ومفهوم السيادة هو ما يجعل من سلطة الدولة سلطة عليا ومطلقة. أن تتمتع الدولة بالسيادة فإن ذلك يعني أن هذه السيادة هي منبع السلطات الأخرى، على هذا الأساس يكون للدولة الحق المطلق في تشريع القوانين وإنفاذها دون أن تكون، في ذلك، محتاجة للرجوع إلى مبدأ غير ذاتها، ولا إلى مشروعية غير مشروعيتها الخاصة. يحيل مفهوم السيادة بذلك على معاني الهيمنة والسلطة والتحكم التي يتقوم بها وجود الدولة في إطار حدود و مجال سلطتها الواقعي والقانوني.
إذا كانت السيادة تعني داخل حدود الدولة السلطة المطلقة والعليا، المحتكرة لحق سن القوانين المنظمة لعلاقة الأفراد فيما بينهم، والسهر على فرض هيبة واحترام هذه القوانين، فهي تفيد في إطار العلاقة بين الدول استقلالية الدولة عن كل سلطة خارجية، أي عن سلطة أي دولة أخرى. وبذلك فانه لا يمكن الحديث عن دولة دون توفرها عن سيادة تامة ومطلقة بما يجعلها قادرة على بسط سلطتها وممارسة هذه السلطة في استقلالية تامة عن تأثير أو مراقبة أي دولة أخرى. يحيل مفهوم السيادة في هذا السياق على مبدأ سيادة الأمة واستقلال إرادتها في مقابل سيادة بقية الدول الأخرى.
إن هذا التحديد الأولي لمفهوم السيادة من خلال ربطه باحتكار السلطة داخل حدود الدولة، على أساس انفرادها بمشروعية تشريع القوانين وإنفاذها من جهة ، واستقلالها عن كل تأثير أو تدخل خارجي من جهة ثانية، أصبح اليوم، وفي ضل مظاهر العولمة الاقتصادية والسياسية خاصة يواجه تحديات حقيقية مع تشكل وتنامي ما أصبح يعرف بالقانون الدولي خاصة. إن سلطة الدولة وان بدت لا محدودة انطلاقا من مبدأ السيادة إلا أن الاتفاقات الدولية التي نشأ عنها القانون الدولي والمؤسسات الدولية الحقوقية جعلت من مفهوم السيادة الوطنية موضوع للمساءلة وإعادة التأسيس.
2/ السيادة ومأزق العنف

* السيادة والحاجة للعنف
يرتبط مفهوم السيادة، في حضارتنا المعاصرة، بالدولة تحديدا، إذ لا يمكن أن نربط أي وجود اجتماعي سياسيي بمبدأ السيادة، غير الحديث عن سيادة الدولة. تكون الدولة بهذا المعنى هي الجهة ، وبغض النظر عما إذا ما كانت تتحدد في شخص، أو في مؤسسة، أو في مجموعة مؤسسات منفصلة ومستقلة، ولكنها في نفس الوقت متكاملة، في احتكار فعاليتين رئيستين؛ تشريع القوانين المنظمة للشأن العام من جهة، وإنفاذ هذه القوانين ، من خلال آليات المراقبة والعقاب ، من جهة ثانية.
ترتبط الدولة، إذن بممارسة العنف ولكن العنف الذي تمارسه الدولة يضل عنفا شرعيا لا من جهة غاياته المتمثلة في ضرورته لتنظيم الشأن العام وإنما من جهة اعتباره شرعيا بالمعنى القانوني. إن عنف الدولة هو العنف الذي يبرره القانون ويفرضه. فالدولة هي الجهة التي تحتكر الحق في ممارسة العنف الشرعي حسب عبارة ماكس فيبر. هذا الربط بين الدولة والعنف يجعلها ليست غير تعبير عن علاقات الهيمنة السائدة داخل المجتمع.
يمثل العنف، كممارسة مبررة ومشروعة، الوجه الآخر للسيادة التي تؤسس لوجود الدولة، وما يجعل من ممارستها للسلطة أمرا واقعيا. حين نربط الدولة بالعنف فان المسالة لا تتعلق بشكل الدولة، باعتبار نظامها السياسي إذا ما كان مستبدا أو ديمقراطيا، وإنما بالدولة بإطلاق وبغض النظر عن هذه الفروقات. والعنف ذاته يمكن أن يتجلى ضمن وسائط متعددة سواء كان عنفا ماديا مباشرا يقوم على إلحاق الأذى المادي والمعنوي، أم كان عنفا رمزيا يقوم على توجيه الرأي العام على أساس المغالطة والتزييف والوهم. ولعل السمة البارزة لممارسة العنف اليوم تتمثل في شيوع آليات العنف الرمزي القائمة على التضليل من خلال الدور المؤثر الذي أصبحت تلعبه اليوم وسائل الإعلام بأصنافها المتعددة حتى صار هذا الشكل من أشكال العنف القائم على التضليل بمثابة العلم القائم بذاته.
يتخذ هذا العنف المنظم الذي تمارسه الدولة وجهين متمايزين ولكنهما متكاملين. فالدولة الحديثة في ممارستها لسلطتها وتثبيت هذه السلطة تستند على منظومتين من الأجهزة كما بين ذلك "ألتوسير" منظومة الجهاز القمعي وهي تتشكل من جملة مؤسسات الدولة القانونية والمتمثلة في الحكومة والإدارة وجهاز الشرطة والقضاء وهي كلها أدوات تعتمدها الدولة لتكريس ذاتها كسلطة تحتكر ممارسة العنف وتقمع كل من يحاول مشاركتها في التفرد في هذه الخاصية، أو عدم الاعتراف بسيادتها وحتى محاولة الخروج عن هذه السيادة.
غير أن الدولة الحديثة خاصة تعتمد منظومة ثانية من المؤسسات والأجهزة التي تمارس نوعا مغايرا من العنف هو العنف الرمزي. إن آليات العقاب وحتى المراقبة المباشرة لا يمكن لها أن تضمن استمرار سلطة الدولة واحترام سيادتها ما لم تعمد إلى تشكيل أو إعادة تشكيل وعي الأفراد على النحو الذي يجعلهم يقبلون بسلطة الدولة على أساس كونها تتوفر على السيادة. يتعلق الأمر في هذا المستوى بمفهوم الايدولوجيا كما صاغته "الفلسفة الماركسية". تتمثل الايدولوجيا في مجموع الأفكار والمعتقدات والمفاهيم التي تسعى الدولة(باعتبارها ممثلة لمصالح طبقة اجتماعية محددة) لجعلها تبدو في الأذهان بمثابة حقائق مقبولة لا يمكن التشكيك فيها أو الخروج عنها. تعتمد الدولة في تشكيلها لهذا الوعي الزائف على مجموعة من الأجهزة التي قد لا تبدو مرتبطة ضرورة بالدولة ذاتها كالمؤسسة الدينية والمدرسة ووسائل الإعلام والمنظمات والأحزاب.... على هذا الأساس تتحدد الايدولوجيا باعتبارها أقسى أشكال العنف نظرا لقدرتها الفائقة على المغالطة حين تتحول المراقبة إلى مراقبة ذاتية.
ليس العنف بالوسيلة أو الأداة الوحيدة التي تؤمن من خلالها الدولة سيادتها وتتيح لها إمكان ممارسة سلطتها غير أن العنف مع ذلك يبقى وسيلتها الخاصة.
بقدر ما يضل اعتماد العنف مبررا باعتباره أحد الشروط الرئيسية التي بمقتضاها يمكن ضمان أقصى ما يمكن من مستلزمات العيش المشترك، فإن ارتباط الممارسة السياسية بالعنف يضعنا في مواجهة جملة من الاحراجات. فممارسة العنف في ضل مطلب تثبيت وتكريس سيادة الدولة وأحقيتها بالانفراد بممارسة السلطة السياسية يمثل قطعا خطرا وتهديدا لمصير الأفراد الخاضعين لها، ذلك أن العنف هو عنف موجه بداية ضدهم، وبغض النظر عن مبرراته. وحتى في حالة القبول بربط سيادة الدولة بأحقيتها باستعمال العنف باعتباره عنف شرعيا فان السؤال عن حجم ومدى العنف المسموح به يضل قائما على نحو جدي.
حتما، إن كل عنف يمكن أن بصدر عن الأفراد بما يهدد العيش المشترك، من الواجب مجابهته بعنف مضاد لردعه، غير أن السؤال عن حجم العنف المناسب في مقابل هذا العنف الأول يضل سؤالا وجيها. إن مجموعة من المشجعين لفريق كورة قدم حين يبادرون للعنف كتعبير عن عدم رضاهم على قرارات حكم مباراة هو فعل وان كان لا يهدد بجد العيش المشترك فانه يضل فعلا غير مقبول يجب مواجهته، إلا انه في هذه الحالة يستوجب الأمر أن نتساءل هل يجب إن نواجه هذا العنف بعنف مماثل في الدرجة؟ أم بكمية أكثر أو اقل؟
يحيلنا هذا التساؤل إلى إحراج حقيقي يتعلق لا بشرعية العنف وضرورته، إذ أن مبدأ السيادة ذاته يفترضه، وإنما إلى التساؤل عن حدوده ومداه. ذلك أن كل تعسف في استعمال القوة والعنف حتى وان كان في إطار قانوني بما يضفي عليه شرعية، يجعل من السيادة ذات طابع إطلاقي يربطها بالاستبداد، فينفي عن ممارسة السلطة المرتبطة بها كل مشروعية بافتقادها لمعيار الحق.
يحيلنا التحليل السابق إلى مفارقة أولى: إن ضمان العيش المشترك بما هو مطلب كل ممارسة سياسية ، وبما هو مبرر مبدأ السيادة ذاته يفترض العنف وسيلة وأداة، أ فليس من المفارقة إذن إن يكون شرط ضمان العيش المشترك بما هو قيمة أخلاقية عليا تؤسس للوجود الإنساني وتضفي عليه بعدا كونيا مشروطا باستعمال العنف والإرغام؟ أ لا يحيلنا الوجود السياسي للإنسان في نهاية الأمر إلى مفارقة، حسب صياغة بول ريكور، تتمثل في التقابل بين موقف الإنسان المبدئي الرافض للعنف أخلاقيا من جهة في حين أن وجوده السياسي مقترنا بالعنف؟
إن هذا المأزق بين تحديد لأفق الاجتماع الإنساني القائم على استهجان العنف من جهة وربط سيادة الدولة بممارسة العنف يضعنا في مواجهة مأزق نظري عملي في آن واحد يتعلق بالتساؤل عن مشروعية ربط مبدأ السيادة بالعنف.
فبأي معنى تمثل السيادة المطلقة والغير مقيدة، والقائمة على اعتماد العنف استبدادا يتنافى ومعيار الحق، وكونية الوجود الإنساني.

* السيادة والاستبداد
تحيلنا دلالة مفهوم سيادة الدولة في علاقة بمسالة العنف، حين نتناول السيادة بما هي سيادة داخلية، إلى مبدأ السيادة باعتبارها مطلقة وغير مقيدة بحيث تكون إرادتها فوق كل إرادة أخرى سواء تعلق الأمر بإرادة جهة معنوية أو بإرادة شخص مادي. بذلك تكون السيادة مصدرا لسلطة مطلقة بحيث لا تخضع هذه السلطة إلا لذاتها، وهو ما يفيد على صعيد الممارسة العملية أن هذه السيادة تحتكر على نحو كامل لا يقبل المشاركة التشريع للقوانين المنظمة للشأن العام كما إنفاذ هذه القوانين وفرض احترامها. وهو ما يعني أن السلطة التي تنبثق عن هذه السيادة هي سلطة مطلقة لا تقبل القسمة أو المشاركة.
إن هذا الربط بين السيادة والسلطة المطلقة التي لا تقبل القسمة أو المشاركة ينتهي بنا إلى مفهوم الاستبداد باعتباره شكل السلطة السياسية المنبثق عن سمات السيادة هذه. يتعين الاستبداد هنا بما هو الحكم الذي يقوم على التفرد بالسلطة بشكل مطلق ولا يقبل مشاركة من أي طرف آخر في إدارة الشأن العام على نحو قطعي.
لا يرتبط الاستبداد بشكل محدد للدولة ولشكل نظام الحكم فيها، فقد يتعين في صورة شخص يكون ملكا أو أميرا أو زعيما، ويمكن أن يتعين في نظام حكم ملكي أو جمهوري، ويمكن أن يستند لشخصية الزعيم الملهم أو الحزب الواحد، ولكننا في كل الحالات أمام أشكال وصور متعددة لوجه واحد هو وجه الاستبداد. غالبا ما لا يقدم المستبد نفسه على أساس كونه مستبدا وإنما يقوم بالتشريع لسلطته المطلقة من خلال مبررات ودعاوي أخلاقية تتعلق بتحقيق الأمن وخدمة المصلحة العامة وتوفر المستبد على خصال استثنائية وتحديد أولويات تنظيم الشأن العام ترتبط باختيارات تتقابل في إطارها مطالب التنمية والأمن الداخلي أو الخارجي مع مطالب الحرية.
بغض النظر عن تطور أشكال الاستبداد، وتنوع مبرراته، فان سمته الجوهرية تضل ذاتها إذ تتعلق بغياب فكرة المواطنة وتحديدا منع وإقصاء الأفراد عن المشاركة في إدارة الشأن العام سواء تعلق الأمر بتحديد الاختيارات العامة المنظمة للشأن العام أو التشريع للقوانين المنظمة للعيش المشترك.
أما السمة الثانية الجوهرية المتعلقة بكل نظام استبدادي فتتعين في غياب المراقبة إذ لا تخضع سلطة المستبد لأي شكل من إشكال المراقبة على ممارسته السلطوية تشريعا وإنفاذا باعتبارها سلطة أولى لا سلطة فوقها.
إن غياب مفهوم المواطنة وتغييب الأفراد من مجال المشاركة السياسية من جهة، وغياب جميع أشكال المراقبة عن سلطة المستبد بما يجعل منها سلطة غير مقيدة، ينزع عن هذا النمط من السلطة كل مشروعية، نظرا لافتقاد السيادة التي تتأسس عليها هذه السلطة لمشروعية الحق وتؤسسها على مشروعية القوة.
إن نظام حكم استبداديا يختزل السيادة في شخص الحاكم أو الحزب الواحد، ينتهي تهديدا لإمكان العيش المشترك بتهديده ونقضه لرهانات مطلب العيش المشترك. ليس العيش المشترك غاية في حد ذاته، وإنما هو المقتضى الذي يوفر شروط ارتقاء الوجود الإنساني إلى مستوى الوجود الكوني. تتمثل شروط هذا الارتقاء في احترام ايتيقا التعايش مع الآخر القائمة على الاعتراف المتبادل والتعاون والحوار وفق مقتضيات العقل، غير أن نظاما استبداديا حين ينزع إلى اعتماد العنف غاية ووسيلة وقمع الحرية والحق في الاختلاف واسترقاق المواطنين وحجب صفة النضج والعقل عنهم من خلال الحكم بعدم أهليتهم في المشاركة في تسيير الشأن العام إنما هو انحطاط بالوجود البشري إلى مستوى الوجود الحيواني القائم على توفير شروط ضمان البقاء المادية لا غير. كما دلت التجربة التاريخية أن كل نظام مستبد يضخم بشكل لا نهائي من سيادته مقابل شعبه إنما ينتهي إلى كوارث حقيقية ترتبط بمغامرات الحرب والعنف ضد الدول الأخرى وما ينتج عنه من دمار متبادل يعرض الوجود الإنساني إلى مخاطر الفناء المادي والفعلي.
إن ربط السيادة بالعنف والاستبداد، وبغض النظر عن كل مبررات هذا الربط يستوجب إعادة النظر في مفهوم السيادة ذاتها من جهة مراجعة حدود هذه السيادة، من خلال تعيين حدود ذاتية للسيادة تنبع من مقتضياتها وأسسها ذاتها. في هذا الإطار تتنزل محاولات عدد من المفكرين منذ بدايات العصر الحديث في محاولاتهم إعادة التفكير في حدود والتزامات السيادة.
3/ السيادة والمواطنة

إن جميع أشكال الاستبداد تجد أساسها في فهم محدد لدلالة السيادة يتقوم باعتبارها مطلقة لا تقبل القسمة ولا المشاركة، وبالتالي فان من يمتلك السيادة يمتلك سلطة مطلقة، غير مقيدة وغير محدودة. سواء تعلق الأمر بشواهد التاريخ، وارتباط الحروب والنزاعات بالأنظمة الاستبدادية، أو عودة على قيم العقل الإنساني المطلقة والخالدة المتمثلة في الحق والخير فإننا نجد أنفسنا مجبرين على إعادة التفكير في مفهوم السيادة من جهة التضنن على تعريفها الملتبس الذي يتصورها مطلقة لا حد لها.
نشأ الفكر السياسي الحديث على أساس مراجعة مفهوم السيادة من جهة تحديدها وتقييدها ذاتيا بمعنى أن تجاوز جميع أشكال الاستبداد يستوجب تقييد السيادة ذاتها من داخلها من جهة ضبط أسسها بشكل يجعل من السلطة المنبثقة عنها سلطة مقيدة بمقتضيات السيادة ذاتها. إن لحظة القطع الحقيقية التي أذنت بميلاد التفكير الفلسفي الحديث في الدولة ارتبط بمرجعية فلسفية وقانونية أصطلح على تسميتها بفلسفة "العقد الاجتماعي".
تحيلنا فلسفة "العقد الاجتماعي" على جملة من الفلاسفة أهمهم جون لوك وروسو وسبينوزا وهوبس. رغم أهمية الاختلافات في مواقف هؤلاء الفلاسفة، والى حد التناقض أحيانا، فان ذلك لا ينفي تقاطعهم حول فكرة رئيسية مثلت أساسا لنشأة الدولة في صيغتها وشكلها المعاصر. يتجلى هذا التقاطع بين هؤلاء الفلاسفة في مبدأين أساسيين:
- ربط التفكير في الدولة بدراسة الطبيعة الإنسانية وضعيا، بحيث تكون نشأة الدولة ناتجة عن خصوصية الطبيعة الإنسانية ذاتها. إن هذه العودة لدراسة الطبيعة الإنسانية في تحديد أسس الدولة مثل قطعا مطلقا مع التفكير اللاهوتي الذي كان يربط التفكير في الدولة بحقائق متعالية ومتجاوزة للوضع الإنساني. يفترض فلاسفة العقد الاجتماعي وجودا أول للإنسان تغيب عنه كل أشكال السلطة فيكون هذا الوضع "حالة الطبيعة". ترتبط هذه الحالة بالعنف والصراع الناتج عن غلبة الأهواء وتناقض مصالح الأفراد بما يهدد الحياة الإنسانية. إن وضعا مثل هذا يضل وضعا مناقضا لما يقره العقل كما طبيعة الإنسان التي تجعل من الحياة قيمة قصوى لا يمكن المغامرة بها بما يفرض على هؤلاء الأفراد البحث عن مخرج يجنبهم خطر الموت العنيف. يكون اتفاقهم لتجاوز هذا الخطر هو إنشاء دولة تكون مهمتها تيسير العيش المشترك.
- اعتبار الدولة اصطناعا وإنشاء إنسانيا فهي قد نشأت بإرادة وفعل الإنسان، هذه الإرادة التي تجلت في العقد الاجتماعي، بما هو عقد إرادي واختياري. فالوعي بخطورة استمرار حالة الحرب المميزة لحالة الطبيعة يدفع هؤلاء الأفراد إلى إبرام اتفاق يلتزم خلاله كل عضو على التخلي عن حقوقه الطبيعية وخاصة حقه في حماية مصالحه بنفسه وحقه في استعمال العنف للدفاع عن مصالحه لصالح الدولة التي ستنشأ عن هذا العقد بشرط تخلي كل فرد عن نفس الحقوق. فسيادة الدولة محكومة بذلك ببنود العقد ذاته التي تتحدد في نسق روسو مثلا بحماية الحريات المدنية والحفاظ على المصلحة العامة، ليكون مبرر طاعة الدولة والاعتراف بشرعية سيادتها هو احترامها لالتزاماتها.
إن هذا التأسيس لسيادة الدولة على أساس احترام الحريات وحماية المصلحة العامة يحدث تحولا جوهريا في منزلة الإنسان داخل الدولة الحديثة إذ يتحول الفرد من منزلة الرعية الذي تتحدد علاقته بالحاكم بالخضوع والإلزام إلى منزلة المواطنة القائمة على المشاركة في الحكم والطاعة للقانون المبنية على أساس أن المواطن ذاته مصدر القوانين التي تشرع باسمه كأحد أفراد الشعب.
هذا الانتقال من مفهوم الرعايا إلى مفهوم الشعب يحيلنا على نظام الحكم الديمقراطي المبني كما أسلفنا على سيادة الشعب. تتحقق هذه السيادة من خلال جملة من الآليات تقوم على اعتبار الفرد مواطنا يتمتع بجملة من الحقوق الأساسية أهمها حقه في المشاركة في الحياة السياسية انطلاقا من الحق في الترشح للمناصب العامة والحق في اختيار ممثليه من خلال الانتخاب الحر والنزيه.




4/ الديمقراطية وحق المقاومة

بقدر ما يمثل النظام الديمقراطي حلا لمأزق العنف والاستبداد من خلال تأسيس السيادة على مبدأ سيادة الشعب فيكون الشعب مصدر السيادة من جهة كونه المشرع للقوانين المنظمة للعيش المشترك عبر التمثيل النيابي ومن جهة كون الحكومة التي تسهر على تطبيق وفرض احترام القانون يختارها الشعب ذاته وتعبر بذلك عن الإرادة العامة فان النظام الديمقراطي لا يخلو ذاته من مشاكل عديدة بما يجعل من قيم الحرية والعدل محل سؤال.
إن النظام الديمقراطي يفيد سلطة الشعب، سلطة غير مباشرة من خلال ممثليه في السلطتين التشريعية والتنفيذية الذين يختارهم المواطن. غير أننا هنا نقع في مأزق ذا وجهين:
- فمن جهة أولى يفترض النظام الديمقراطي حق الأغلبية في القيادة والحكم وهو ما يعني إن كل عملية انتخابية تنتهي ضرورة إلى إقصاء وتهميش عدد من المواطنين الذين لم يساهموا في اختيار الحاكم وهو يجعل من علاقتهم مع هذه السلطة المنتخبة قائمة على الخضوع لإرادة الأغلبية ومصادرة حقهم في المشاركة في السلطة. يصبح مثل هذا الوضع خطيرا حين تكون هذه الأقلية 49 في المائة من مجموع المنتخبين فيكون النظام الديمقراطي سببا لتغييب نصف المواطنين تقريبا من المشاركة في السلطة.
- أما من جهة ثانية فاعتبار أن مشروعية الحاكم تكمن في حصوله على أغلبية الأصوات لا يجعل من حكمه ،ضرورة حكما شرعيا من جهة الحق والمعايير الأخلاقية إذ إن التاريخ قد أوضح لنا بشكل جازم أن الأغلبية يمكن تحت تأثير المغالطات والتزييف والشعور القومي المتطرف أن تكون سببا في قيان أنظمة حكم لا أخلاقية ولا إنسانية تمثل خطرا حقيقيا على الأمن والسلم داخليا وخارجيا.
إن التأكيد على أهمية وضرورة التمسك بالنظام الديمقراطي كشكل للحكم يحقق غايات العيش المشترك ضمن مقتضيات الحق لا يعني مطلقا أن القبول بالخضوع لمقتضيات الممارسة السياسية داخل النظام الديمقراطي يفيد خنوعا وسلبية تجعل المواطن بجميع أشكال التعدي على حقوقه الأساسية باسم حكم الأغلبية أو المصلحة العامة. الأساس النظري الذي يقوم عليه مفهوم السيادة والمتمثل في نظرية العقد الاجتماعي هو ذاته الذي يجعل من مقاومة ورفض الخضوع لجميع إشكال التعدي على الحقوق المدنية ذاته ضروريا. إن العقد يقوم على أساس التزامات متبادلة فكما يكون المواطن ملزما باحترام سيادة الدولة فان الدولة ذاتها تكون ملزمة باحترام حقوق الإنسان لذلك فان إخلال الفرد بالتزاماته كما يلزم وقوعه تحت طائلة العقاب القانوني فان إخلال الدولة يجعل من الفرد حلا من الاعتراف بطاعة الدولة ومقاومة سلطتها المتعسفة.
تخذ هذه المقاومة أشكال متعددة إذ يمكن أن تكون مقاومة سلمية ترتبط باللاعنف الايجابي كما تجسد في مقاومة غاندي للاستعمار الانكليزي لبلاده.
الشكل الثاني من المقومة والذي يميز الممارسة السياسية المعاصرة هو ما أصبح يعرف بمقاومة الحشود أي حركات الاحتجاج الشعبي الضخمة التي تعمد إلى محاصرة المؤسسات العامة وقطع الطرق الرئيسية والامتناع عن العمل وسط تغطية إعلامية كبرى تمنع ممارسة العنف الشديد من قبل السلطة ضد المتظاهرين .
في كل الحالات يبقى الحق في المقاومة حق مطلق للمواطن في كل حالة تخل فيها الدولة باستحقاقاتها المتمثلة في ربط السيادة بالشعب.
4/ المواطن العالمي

تكمن أهمية الربط بين السيادة وسلطة الشعب واعتبار أن الشعب مصدر السيادة داخل نظام حكم ديمقراطي، في تأكيد أولوية وقداسة حقوق المواطن باعتباره شريكا فاعلا في تنظيم الشأن العام من خلال الإقرار بجملة من الحقوق الأساسية التي لا يمكن مجاوزتها بأي حال. إن الدولة الديمقراطية هي الدولة التي تضمن لمواطنيها جملة من الحقوق المدنية تتنوع مابين حقوق سياسية واجتماعية وثقافية تسهم جميعها في ضمان كرامة الفرد احترام شخصه بعيدا عن كل أشكال التعسف والوصاية.
غير أن ما يجب ملاحظته أن جملة هذه الحقوق التي يكتسبها الفرد داخل نظام الحكم الديمقراطي إنما يستمدها باعتبارها مواطنا يقر دستور البلاد التي ينتمي إليها مجمل هذه الحقوق. ترتبط حقوق الإنسان إذن بالمواطنة كانتماء قومي لدولة يعينها. إن هذا الربط بين حقوق الإنسان والمواطنة في علاقتها بالهوية القومية يثير جملة من الاحراجات الأساسية.
- يتعلق الإحراج الأول بوضعية الأقليات التي لا تحمل نفس الهوية الثقافية للأغلبية من المواطنين. إن مثل هذا الوضعية غالبا ما ينتهي إلى وضعية إقصاء وتهميش لهذه الأقليات باعتبار أن قانون الأغلبية يمنعها من إمكان المشاركة الفعلية في إدارة الشأن العام.
- يتعلق الإحراج الثاني بوضع المهاجرين لدول غير دولتهم الأصلية. إن هذه الوضعية غالبا ما تكون مقترنة بتهميش الجاليات المهاجرة وتعرضها للعنصرية باعتبار أن عدم حملها لجنسية الدولة التي تقيم فيها، يحرمها من الكثير من الحقوق التي يتمتع بها فقط المواطنون .
هذا الربط بين الحقوق والمواطنة وفي ضل التحولات التي يعرفها عالمنا المعاصر المرتبطة بتنامي ظاهرة الهجرة لأسباب متعددة، وخاصة اقتصادية، جعل من مراجعة هذا الربط ضروريا. تتمثل هذه المراجعة خصوصا في تجاوز الربط الضروري بين حقوق الإنسان والمواطنة على أساس ربط هذه الحقوق بحقوق الإنسان. تكمن أهمية هذا الربط في تأسيس هذه الحقوق على وجه مطلق وكلي يربط بين الحقوق والإنسان ليس باعتباره مواطنا في دولة ما ولكن باعتباره إنسانا بغض النظر عن كل انتماء قومي أو ثقافي. بذلك فانه سواء تعلق الأمر بمواطن أو بأقلية ثقافية أو بمهاجر فان التمتع بالحقوق يكون لازما من الانتساب للإنسانية لا غير وهو ما نصت عليه مواثيق الأمم المتحدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

5/ السيادة في ضل العولمة

يفترض القانون الدولي أن كل الدول تتمتع من حيث المبدأ بالسيادة على أساس المساواة الكاملة، وتمتع كل دولة باستقلالها التام، بما يفرض أن تكون العلاقة القائمة بين الدول قائمة على أساس احترام كل دولة لسيادة الدول الأخرى وامتناعها عن التدخل في شؤونها الخاصة، وهو ما يعبر عنه بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
إذا ما كان من المفترض في العلاقات الدولية أن تقوم على أساس عدم التدخل في الشؤون الداخلية فان القانون الدولي ذاته يفرض على هذه الدول الالتزام بالاتفاقات الدولية التي تمضيها وتصبح ملزمة لها. تصبح هذه الاتفاقات بمثابة القيود التي تحد من سيادة الدول. ان هذه الاتفاقات أصبحت في عصرنا أكثر حضورا وأكثر تضييقا لسيادة الدولة من جهة بروز منظمات واتفاقات تجعل من سلطة بعض المنظمات أعلى من سلطة الدولة ذاتها . فسواء تعلق الأمر بالحق في التدخل لأسباب إنسانية، أو ملاحقة مجرمي الحرب ... فان سيادة الدولة تفتقد لصفة الإطلاق، وتصبح محدودة بحدود القانون الدولي.
بقدر ما يمثل هذا الحد من سيادة الدولة عاملا ايجابيا في حماية حقوق الإنسان وملاحقة مجربي الحرب والقائمين بجرائم التعذيب أو ضد الإنسانية فان تدخل العوامل والمصالح السياسية لبعض الدول بحيث تضخم من بعض الحوادث لتهمل النظر في وقائع وجرائم لا تقارن في خطورتها وانتهاكها لكل القيم الإنسانية يجعل من السؤال عن هذا الاتجاه المتنامي في التأسيس لمبدأ التدخل في الشؤون الداخلية للدول محل سؤال.






























معهد ابن رشد حي الرياض السنة الدراسية2008/2009
الأستاذ وحيد الغماري المستوى: رابعة شعب علمية

مسألة الدولة: السيادة والمواطنة


المكتسبات:

المشكل العام للمسألة:
إذا ما كانت السيادة تتجه بطبعها نحو الاستبداد، فبأي معنى وضمن أية شروط يمكن لمفهوم المواطنة أن يمثل إمكانا لتجاوز مخاطر الاستبداد؟ وهل يمكن للحديث اليوم عن سيادة فعلية للدولة؟
تمهيد: في ضرورة الدولة
- ضرورة الاجتماع الإنساني كشرط لتحقق الإنساني في الإنسان.
- رغم أهمية هذا الاجتماع فان خطر النزاع والصراع، بسبب أنانية الأفراد، يمثل تهديدا دائما لتماسك المجتمع ووحدته.
- ضرورة توفر سلطة يكون دورها تنظيم الشأن العام وفرض احترام مقتضيات العيش المشترك.
* مفهوم السلطة
- مفهوم السلطة أشمل من مفهوم السلطة السياسية
- السلطة السياسية هي فقط أحد وجوه السلطة
- السلطة تحيل على معاني القوة والهيمنة وهي تفيد بذلك علاقة عمودية بين طرفين طرف يمتلك القوة والنفوذ فيمارس سلطة وهيمنة على الطرف الآخر.
- تتميز السلطة السياسية باعتبارها القوة التي تختص بتنظيم الشأن العام لتأمين العيش المشترك.
* مفهوم الدولة
- الدولة تتشكل من مقومين:
- 3 أركان هي الإقليم والشعب والسلطة
- السيادة داخليا وخارجيا
- مهمتها تنظيم الشأن العام
* مفهوم السيادة:
- السيادة تطلق على الدولة باعتبار انه ليس هناك من سيادة غير سيادة الدولة.
- سيادة الدولة يفيد امتلاك الدولة لسلطة مطلقة في حدود الإقليم الذي تسيطر عليه ، فتكون السيادة بذلك داخلية وخارجية.
- سيادة الدولة مطلقة لا تقبل القسمة أو الاشتراك.
- تتجلى سيادة الدولة في احتكارها لحق تشريع القوانين المنظمة للشأن العام و العمل على إنفاذ هذه القوانين وفرض احترامها.
- السيادة هي ما يجعل من ممارسة الدولة للسلطة مشروعا، فهذه السلطة تمارس باسم السيادة.
* مفهوم العنف:
- العنف يفيد استعمال القوة لإلحاق الأذى ، سواء كان معنويا أو ماديا.
- العنف يكون ماديا حين يرتبط بإحداث الأذى الجسدي ويعتمد استعمال القوة المادية.
- العنف الرمزي هو العنف الذي يعتمد توجيه الرأي العام بشكل غير مشروع من خلال المغالطة.
- العنف يكون قانونيا حين يكون في إطار الضوابط والتشريعات التي تحددها الدولة: الدولة هي الجهة التي تحتكر حق استعمال العنف الشرعي.
- العنف بقدر ما هو ضروري لحماية العيش المشترك فانه يمكن أن يؤدي للاستبداد.
* مفهوم الاستبداد:
- الانفراد بالحكم دون مشاركة أفراد الشعب أو العودة إليهم.
- ممارسة العنف والإكراه لتثبيت سلطة الحاكم.
- نظام الحكم الاستبدادي يؤدي دائما إلى تقويض أسس العيش المشترك وتعريض الدولة إلى خطر النزاعات الخارجية.
* الديمقراطية
- نظام الحكم الذي يقوم على مبدا سيادة الشعب .
- الشعب داخل النظام الديمقراطي يحكم نفسه بنفسه بطريقة غير مباشرة عبر نواب ينتخبهم بشكل حر.
الديمقراطية تستلزم التناوب في الحكم واعتبار جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات
* المواطن:
الفرد الذي ينتمي لدولة ديمقراطية يتمتع بجملة من الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية كما يلزم بجملة من الواجبات بشكل مساو لبقية المواطنين دون أي تمييز.
* المقاومة
حق الشعب في رفض الخضوع لسلطة الدولة حين تتعسف في استعمال القوة وتنتهك حقوق المواطنين الأساسية.
* المواطن العالمي
ربط حقوق الإنسان لا بالانتماء لدولة قومية يضمن لها دستورها جملة من الحقوق وإنما اعتبار تلك الحقوق تعود على الإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن انتمائه القومي وهو ما يمثل حلا لمشاكل المهاجرين والأقليات.
* حدود السيادة
سيادة الدولة في عالمنا المعاصر محدودة بالاتفاقات الدولية كما تجعل من الدول والحكام مسئولين دوليا في حالة ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية.

الجمعة، 22 مايو 2009

لمراجعة مسألة النمذجة والتثبت من مدى فهمك وتمكنك من معانيها وقضياها الرئيسية أنصحك بالاشتغال على التمرين التالي:
الاختزال، الاصطناع، الافتراض، الواقع، الحقيقة، الملاءمة.
حاول أن تنجز فقرة متماسكة تحلل في اطارها كل معنى من هذه المعاني وفق هذا الترتيب واحرص على أن تجد الرابط المنطقي بين المعنى الأول والمعنى الذي يليه
بالتوفيق

الثلاثاء، 19 مايو 2009

مدخل لباب الانساني بين الوحدة والكثرة

ما الإنسان؟
ليس سؤال الإنسان عن ذاته بالسؤال المستحدث أو بالسؤال المصطنع.
ليس بالسؤال المصطنع من جهة كونه يتعلق بخصوصية الوضع الإنساني، باعتباره وضع يرتبط بتلازمه مع خاصية الوعي الذي يرتبط بهذا الوجود ،وعي يستشعر من خلاله الإنسان حاجته للمعرفة: معرفة ذاته، وموضع هذه الذات في الوجود.إن السؤال الذي يقود إلى هذا الوعي لا يعبر مطلقا عن ترف فكري (ذلك ما تشهد به على الأقل تاريخية الوضع الإنساني إذ حضر سؤال الإنسان عن ذاته ووضعه منذ بدايات تشكل الوعي الإنساني وفي لحظة، مازال فيها، خاضع بشكل مطلق لمحيطه الطبيعي، يصارع من اجل حفظ بقائه و ضمن الشروط الدنيا لحفظ البقاء ) وإنما ، يعبر طرح هذا السؤال، عن حاجة ملحة لتحصيل اليقين والاطمئنان معرفيا ووجوديا؛ إطمئنان لا يستقيم وجود الإنسان دون تحققه. إن تجربتنا الشخصية، ذاتها، تثبت لنا إن مناسبات طرح السؤال غالبا ما اقترنت بأشد تجاربنا مأساوية وحدة. ذلك أن الؤال عن معنى وجودنا وغايته، وعن مصيرنا، وعن القضاء والقدر، وعن الموت غالبا ما يتشكل ضمن لحظات قلق وجودية ترتبط بالقلق والحيرة والخوف، كنتيجة للشعور بالمرارة والعجز والاحساس بالفشل. ( أنظر قصيدة الشاعر إليا أبو ماضي " لست أدري" مثلا) فيكون طرح هذه الاسئلة ومحاولة البحث عنها، في بعض وجوه، بمثابة البحث عن استعادة حب الحياة ذاتها، وارادة الاستمرار فيها.
وسؤال الإنسان عن ذاته ليس بالسؤال المستحدث ،كذلك،من جهة كونه سؤال ينغرس في عمق الوعي البشري وهو ما يشهد عليه مضمون الفكر الأسطوري؛أول أشكال الوعي البشري وأقدمها. بل لعل الوعي الإنساني، ذاته، ما كان انبجاسه غير استجابة وتقاطع مع هذا السؤال ؛ذلك ما يشهد عليه، صراحة ، مضمون هذه الأساطير( أنظر أسطورة قلقامش:الوضعية الاستكشافية الثانية في الكتاب المدرسي).لا يتعلق الأمر بالأسطورة وحدها فالحال ذاته بالنسبة لمختلف أشكال الوعي البشري الأخرى من فن ودين وفلسفة وعلم؛ إذ يضل محور الاهتمام فيها جميعا الإنسان، رغم فروق أوجه الاهتمام وكيفية تناول السؤال وطبيعة الجواب المفترض له.
أمام هذا الإقرار بكثافة حضور سؤال ما الإنسان داخل كل أشكال الوعي البشري، وعلى امتداد كامل تاريخ هذا الوعي، يفترض بنا أن نتساءل عن وجاهة وخصوصية المقاربة الفلسفية لهذا السؤال؟ إن إقرارنا منذ البداية بكون سؤال الإنسان عن نفسه ليس بالسؤال المستحدث أو المصطنع في تأكيد بتعلق السؤال بكامل التجربة الإنسانية في مختلف أشكالها وتجلياتها يفترض أن السؤال ليس سؤالا فلسفيا خاصا، تتميز به الفلسفة وتحتكره، غير أن ما يجب الانتباه إليه كذلك أن هذا الاشتراك، ما بين الفلسفة ومختلف أشكال الوعي البشري، لا يفيد مطلقا تماثل حيثيات طرح السؤال ما بين الفلسفة وبقية أشكال الوعي الأخرى.
يتعلق الأمر باختلافات، قد تتفاوت درجتها ما بين الفلسفة وأحد أشكال الوعي الأخرى، لكنها تضل في كل الحالات اختلافات أساسية ترتبط بخصوصية الخطاب الفلسفي ذاته.

يمكن أن نرد هذا الاختلاف الأساسي، إلى خصوصية، وطبيعة الخطاب الفلسفي ذاته. تتجلى هذه الخصوصية في مستويات متعددة، غير أنها تدور جميعا حول مفهوم الكلي. إن ما يكسب الفلسفة خصوصيتها كنمط من التفكير، ليس في مسألة الإنسان فقط ولكن فيما يعود على مجمل خطابها وقضاياها، إنما تشكل هذا الخطاب حول مفهوم الكلي.
يسعفنا النظر في تاريخية نشأة الفلسفة بفهم أولي لدلالة الكلي الذي تبحث عنه الفلسفة. لقد اقترنت هذه النشأة بحدثين/ تحوليين خطيرين. يعود التحول الأول على التحول في تفسير "الطبيعة" تحولا اقترن من التحرر من التفسيرات الأسطورية والسحرية التي تعيد ما يحدث في الطبيعة إلى تفسيرات عجائيبية ترتبط متعالية عن الطبيعة ومفارقة لها، فما يحدث في الطبيعة هو نتاج لأحداث وكائنات خارقة بما هي كائنات أسطورية.
في مقابل هذا النمط من التفكير العجائبي والأسطوري عمد " الفلاسفة الأوائل" إلى محاولة تفسير الطبيعة تفسيرا "موضوعيا من خلال إرجاع ما يحدث داخل الطبيعة إلى الطبيعة ذاتها. تجلى هذا الإرجاع في البحث عن مبدأ كلي يهب المعرفة موضوعية ويقينا يتجلى في الوحدة والثبات. على هذا الأساس أعاد " طاليس" ما يحدث في الطبيعة إلى مبدأ أول هو الماء ، فيكون الماء كعنصر أول ما يضفي الوحدة على الكثرة والثبات على التغير اللذان لا يمكن تعقلهما .
يتحدد الكلي بداية إذن بما هو مطلب الوحدة والثبات بما يجعل من المعرفة والتعقل ممكنين. يحيلنا هذا التحديد الأولى لمفهوم الكلي على مجال اشتغال أول للفلسفة عامة، ولمطلب الكلي خاصة، الذي يتحدد في مجال المعرفة فيكون الكلي هو مجال المعرفة واليقين.
الحدث الثاني الذي ارتبط بنشأة الفلسفة يتعلق بالإطار التاريخي والجغرافي لهذه النشأة. لقد ظهرت الفلسفة في أثينا في إطار من الحراك والمناخ الاجتماعي والسياسي المتميز بروح الحرية ( حرية محدودة وجزئية بما هي خاصة بالمواطنين الذكور الأحرار لا الغير) ذلك أن المعرفة كما الشأن العام هي مجال لحوار علني وعمومي مكانه "الأغورا" والساحة العامة وليس كهوف السحرة. الكوني بذلك يتعلق بكونية القيم الإنسانية كونية تجعل من الحوار والنقاش العلني أساسا للعلاقات الإنسانية، بما يؤسس لامكانات العيش المشترك.
على هذا الأساس يمكن تحديد دلالة الكوني في علاقة بسؤال ما الانسان في مستويين:
مستوى المعرفة اذ يتعلق الكوني بتحصيل الحقيقة واليقين باعتبار الانسان هو مصدر الحقيقة ولكن كذلك موضوعها بحيث تحل محبة الحكمة كشأن انساني محل الحكمة ويحل العقل محل الاسطورة.بذلك يرتبط مطلب الكلي /الكوني بمسعى الفلسفة لكشف المغالطات وتجاوزها ، سواء كانت هذه المغالطات منطقية أو أيديولوجية.
مستوى الايتيقا حيث يتحدد الكلي بما هو أساس للعيش المشترك القائم على الحوار والنقاش العلني. فيرتبط الكلي برهان الفلسفة على تكريس قيم الخير والعدل والحوار والتسامح بما يكفل تحقق العيش المشترك.
اعتبارا لهذا المطلب يكون مطلب الكلي /الكوني هو عنوان الالتزام الفلسفي ورهانه فضحا وتشنيعا بكل الوضعيات التي لا يكون فيها الإنسان إنسانا .

البرامج الرسمية لمادة الفلسفة

سفر البرامج الرسمية لمادة الفلسفة كل الشعب في تونس

http://www.edunet.tn/ressources/reforme/nouv_prog/programmes/social/philo/programme_3_4.pdf

الاثنين، 18 مايو 2009

تقابل حالة المساواة الأصلية بين الناس، في نظرية العدالة باعتبارها إنصافا، حالة الطبيعة في النظرية التقليدية للعقد الاجتماعي. ولا تعتبر هذه الحالة حالة تاريخية فعلية، ولا شكلا بدائيا للثقافة، بل ينبغي فهمها بوصفها حالة افتراضية تقودنا إلى تكوين تصور محدد للعدالة. ومن بين السمات الأساسية لحالة المساواة الأصلية، أن لا أحد ، فيها يعرف مسبقا مكانته في المجتمع، ولا وضعه الطبقي، بل إني أذهب إلى حد القول أن هؤلاء الشركاء لا يمتلكون تصورا للخير، ولا يعرفون ميولاتهم النفسية. انطلاقا من هذه الوضعية يقوم الشركاء باختيار مبادئ العدالة وراء ستار من الجهل، مما يضمن أن لا يكون واحد منهم في وضعية امتياز عند اختيار المبادئ. وبما أن الجميع يوجد في نفس الوضع، فلا أحد يستطيع إذن عن مبادئ تزكي وضعيته وتدعمها، وتكون مبادئ العدالة في هذه الحالة، ناتجة عن اتفاق أو تفاوض عادل ومنصف(...)
وأزعم أن الأشخاص الذين يوجدون في هذه الوضعية الأصلية سيختارون مبدأين مختلفين إلى حد ما. يفرض المبدأ الأول المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية، بينما يفرض الثاني اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، مثل اللامساواة في الثروة والسلطة، وهذا سيكون من العدل فقط إذا تم تعويض الأفراد الأقل حضا باستفادتهم من تلك الثروة والسلطة.
إن حدسي هو التالي: ينبغي أن يتم توزيع الامتيازات واقتسامها بطريقة تضمن التعاون الإرادي لكل أفراد المجتمع، بما فيهم أولئك الذين هم أقل حضا. يرتبط تحقيق الرخاء بتعاون الجميع، وبدون هذا التعاون لن يستفيد أحد من هذا الرخاء.
يمثلان المبدآن السابقان قاعدة منصفة تمكن أولائك الذين هم في وضعية اجتماعية أحسن وأوفر حضا أن يأملوا في تعاون إرادي لباقي الشركاء؛ مادام رخاء الجميع مشروط بتعاون جميع الأفراد. هذان هما البندان اللذان نصل إليهما بمجرد ما نقرر تكوين تصور للعدالة يمنعنا من استخدام المواهب الطبيعية التي تخلقها الصدف والظروف الاجتماعية، بوصفها عوامل مساعدة في البحث عن أسباب الامتيازات السياسية والاجتماعية.
جون راولز نظرية العدالة ص 38- 41

المهام


* ما هي الأصول التي يعود إليها الكاتب لتأسيس مفهوم العدالة؟
* ما الذي يضمن تحقق العدالة من وجهة نظر الكاتب؟
* بأي معنى تتأسس العدالة على الإنصاف؟
* هل يضمن التأكيد على التساوي في الحقوق والواجبات فعليا العدالة؟

الأحد، 17 مايو 2009

نص للتدرب على المنهجية

أدرك الآخرين في سلسلة تجارب متغيرة و منسجمة، و في الآن ذاته كموضوعات للعالم لا باعتبارها« أشياء» طبيعية، رغم أنها – بشكل ما – تعتبر كذلك. فالآخرون يظهرون لنا من خلال التجربة التي تتحكم نفسيا في الأجسام الفيزيولوجية التي يمتلكونها، فارتباط الآخرين بأجسامهم، باعتبارهم «موضوعات سيكولوجية »، دليل على أنهم يوجدون «في» العالم. بالإضافة الى ذلك، فأنا أدركهم في الآن نفسه كذوات من أجل هذا العالم ذاته. و هي ذوات تدرك العالم – الذي أدركه الأنا – و الذي من خلاله ستتوفر على تجربتي أنا، مثلما أتوفر أنا على تجربة العالم و من خلاله تجربة الآخرين.
توجد في .. تجربة « العالم » و« الآخرين ».. ليس كما لو كان ذلك عملا لنشاطي التركيبي الخاص بشكل ما بل كعالم غريب بالنسبة لي، موجود لدى كل واحد منا، و سهل البلوغ من طرف كل واحد من خلال « موضوعاته». و مع ذلك، فلكل تجاربه الخاصة بها، و وحدات تجاربه و ظواهره الخاصة به. إن عالم التجربة موجود « في ذاته» خلافا لكل الذوات التي تدركه و لكل الظواهر باعتبارها مجموعة من العوالم. فكيف السبيل لفهم هذا ؟ .. لقد قدم المشكل أولا بوصفه مشكلا خاصا يتعلق بموضوع « وجود الغير بالنسبة إلي»، و من ثم شكل نظرية ترنسندنتالية حول تجربة الآخر.. و لكن قيمة نظرية كهاته سرعان ما يتبين أنها أكبر بكثير مما تبدو عليه لأول وهلة، فهي تقدم في الوقت نفسه قواعد نظرية ترنسندنتالية للعالم الموضوعي.
إن من بين معاني الوجود في العالم، أن فعل الوجود خاص بكل واحد منا، و هي خاصية تفهم بشكل مشترك كلما تحدثنا عن الواقع الموضوعي، و بالضبط بالمعنى الذي تتخذه كلمة الطبيعة بما هي طبيعة موضوعية.
Husserl,Méditations cartésiennes,Trad.G.Peiffer et E.Lévinas,Vrin, 1992, pp.150-152
المهام
* ضمن أية شروط يكون إدراك الآخر ممكنا؟
* ما الذي يؤسس للتمايز بين الأنا والآخر؟
* ما الذي يجعل من اللقاء بالآخر ممكنا؟
* هل يمكن أن يختزل الوعي بالآخر حقيقة الأنا؟
لمراجعة الاصلاح أنظر

الخميس، 14 مايو 2009

تمهيد لمسألة الانية والغيرية

تمهيد لمسألة الانية والغيرية



يمثل الإحساس ب"الأنا" أكثر الأحاسيس الإنسانية يقينا ومباشرة فوجود"الأنا" وإدراك هذا الوجود هو إحساس نستشعره كل لحظة مع كل حركة نتحركها وعمل نؤديه وشعور ننفعل به.إن هذا الإحساس لا يغيب عنا مطلقا ولكنه قد يزداد حدة وكثافة حضور في حالات البأس وحين الاصطدام بصعوبات الحياة ومشاكلها؛ ما يجيئنا على حين غفلة وما نترقبه منها.
رغم يقينية ومباشرة هذا الإحساس ب"الأنا" فان تحديد ما يكون عليه هذا" الأنا" وحقيقته يضل موضوعا لا مفكر فيه بالنسبة لنا داخل الحياة اليومية .
غير إن هذه اللامبالاة قد تتحول إلى اهتمام حقيقي خاصة في حالة الاصطدام بوضعية قصوى؛ تلك الوضعيات التي نعجز معها على الفهم والإدراك واتخاذ القرار. تجعلنا هذه الوضعيات أمام ذواتنا مباشرة نواجه ما نعتقده أنه مصيرنا فتكون مناسبة لتنسل أسئلة عن حقيقة وجودنا، لا عهد لنا بطرحها في خضم وطأة اليومي وتغوله على كل فاعليتنا الذهنية والعملية.
يشار إلى هذه الأسئلة باعتبارها أسئلة خالدة؛وهي الأسئلة المتعلقة بالموت والحياة والقضاء والقدر والمال والمصير وإمكان الحياة بعد الموت.
إن ما يجعل من هذه الأسئلة خالدة هو كونها على قدمها، قدم ارتبط بنشأة الوعي البشري ذاته، فإنها ضلت مع ذلك دون إجابة حاسمة تغنينا عن إعادة طرحها.وهي خالدة من جهة كون تجربة طرحها ومحاولة البحث عن إجابة لها، إنما هو شان أنساني عام إذ يصعب فعليا أن يوجد إنسان لم يخض هذه التجربة.
يرتبط سؤال الإنسان عن نفسه إذا بالحيرة والتردد، وهي حيرة قد تأخذ أحيانا أشكالا مأساوية.
إذا كان طرح هذه الأسئلة قدر، فلعل الفلسفة هي الخطاب الأنسب لطرحها لما سبق وأن عيناه من مبررات في المدخل لباب "الإنساني بين الوحدة والكثرة".
يحيل سؤال الفلسفة على الإنسان بداية إلى مشكل " الآنية" في علاقتها ب"الغيرية".إذا ما اعتبرنا أن" الآنية" تفيد التحقق الفعلي للوجود الإنساني باعتبار الآنية هي مضمون "الإنساني" فضمن أية شروط تتحقق هذه الآنية؟هل في ربطها بالوحدة استبعادا للكثرة ما يعينها على نحو كلي؟وهل في اعتبار أن للإنسان جوهر ثابت هو ماهيته ما يضمن كونية هذا التحديد للإنساني؟وضمن أية شروط تتعين النفس العاقلة باعتبارها ماهية الإنسان داخل الفلسفة القديمة؟و بأي معني يقتضي هذا التحديد استبعاد الجسم من مجال تحديد الآنية وربطه بالغيرية؟(انظر نص ابن سينا "الشعور بالأنا")
يمثل" ديكارت" لحظة بارزة داخل تاريخ الفلسفة إلى حد اعتباره" أب الفلسفة الحديثة"،فما وجه الجدة في موقفه من بناء الآنية؟لقد جعل ديكارت من" التفكير" مبدأ الوجود ؛وجود الذات كما وجود العالم. فما دلالة ربط الآنية بالتفكير ؟وما هي استتباع هذا التصور على منزلة الجسد والعالم والآخر؟
سواء تعلق الأمر ب"ابن سينا" أو "بديكارت" فان تصورهما للآنية في الحالتين يتأسس على نفي وإقصاء الجسد والعالم والآخر والتاريخ والوعي إذ كون مجالها جميعا هو مجال الغيرية أي مجال ما هو هامشي وعرضي ،إلا أن تجربتنا المعيشة حتى في ابسط مستوياتها الحسية تبين لنا بشكل قاطع انه لا وجود لنا خارج الوجود الجسدي.فأية مراجعات يستوجبها إعادة النظر في منزلة الجسد على تصورنا للآنية؟(انظر نص تجربة الجسد لمرلوبنتي في كتاب العلوم.)
إن الاعتراف بقيمة الجسد واعتبار تحقق الآنية مشروطة به يبرر إعادة التفكير كذلك في حقيقة غرائزنا خاصة تلك ذات الأصل الجنسي.فأية وضعية تتخذها هذه الغرائز داخل حياتنا النفسية وما علاقتها الفعلية بوعينا؟( انظر نص الشعور واللاشعور لفرويد في الكتاب المدرسي)
مقاربة الآنية من جهة البعد الغريزي في الإنسان وان يجد مبرره في الممارسة العلمية داخل علم النفس التحليلي يمكن إن يضعنا في مأزق حقيقي يرتبط باستبعاد التاريخ.فهل يمكن فعليا تجاهل تاريخية الوعي في تحديد الآنية ؟أليس التاريخ هو اخص خصائص الوجود الإنساني؟(انظر نص ماركس الاساس التاريخي للوعي في الكتاب المدرسي)
سواء تعلق الأمر ،في إطار تحديد الآنية،بنفي غيرية الجسد أو اللاوعي أو التاريخ فإننا سننتهي حتما إلى نفي غيرية الآخر ؛ذلك أنه لا وجود ولا معنى للجسد والرغبة والتاريخ إلا في علاقة بالآخر،وهو ما يعني أن الآنية تضل مشروطة بداية بضرورة حضور الآخر حتى وان كان هذا الحضور حضورا عنيفا.(انظر نص الوعي بالذات يستوجب الوعي بالآخر لهيقل)
إلى أية نتائج تقودنا مجمل هذه التساؤلات حول الآنية والغيرية.وهل يمكن حقا بلوغ وتحديد تصور كلي للإنسان؟
والى أي حد يمثل مطلب الكلي باعتباره أفقا لبحث مسالة الآنية مطلبا مشروعا ؟ألا نخشى أن يتحول هذا المطلب إلى مجرد مغالطة غايتها الاختفاء وراء هذا المطلب لتكريس الهيمنة وتبرير استعباد الإنسان؟



الاثنين، 4 مايو 2009

مواضيع لمراجعة مسألة الدولة

* الخير والسياسة
* هل يمكن تبرير العنف؟
* هل الدولة عائق أمام حرية الفرد أم هي شرط ضروري لضمانها؟
* هل من الحكمة أن نبحث عن الدولة؟
* " ابتكر الإنسان الدولة لكي لا يطيع الانسان"
* " ليس ثمة تعريف آخر للشرعية غير الذي يقدمها كسلطة قائمة على الحق."
* هل يبرر مطلب الأمن التخلي عن الحرية؟* إلى أي حد يمكن أن نطيع الدولة؟
* هل من الوجيه تأسيس السيادة على مطلب الرفاهة؟
* بأي معنى يتأسس الحق على القوة؟
* هل من تناقض بين ضرورة الطاعة والحق في المقاومة؟
* السيادة والمواطنة؟
* هل من مفارقة في التأكيد على مبدأ السيادة وكونية الحق؟