الأربعاء، 28 أكتوبر 2009

الصورة الفوتوغرافية بين الدلالة والتدليل









الصورة الفوتوغرافية بين الدلالة والتدليل


محسين الدموش


هل يمكن اعتبار الصورة الفوتوغرافية لغة؟ ما هي العلاقة التي تربط الصورة الفوتوغرافية باللسان الذي نستعمله في قراءتها؟ هل استطاعت الدراسات السيميائية وضع حدود فاصلة بين دوال الصورة الفوتوغرافية les signifiants ومدلولاتها les signifies وتنظيم قواعدها الاستبدالية والتأليفية؟ كيف يشتغل التمثيل la représentation في الصورة الفوتوغرافية، ووفق أي إواليات mécanismes بنائية يتم تحقيق طرق التدليل la signifiance فيها؟


إن الإجابة عن هذه الأسئلة هو الكفيل –في منظورنا- بتعميق النظر في خصوصية الصورة الفوتوغرافية بوصفها علامة signe سيميائية تشتغل وفق تنظيم خاص ومحدد. فإذا كان Christion Metz يعتبر الصورة الفوتوغرافية كـ:"الكلمات، وكل الأشياء الأخرى لا يمكن أن تنفلت من تورطها في لعبة المعنى"(1) فإن الأساسي هو الوقوف عند المبادئ التي تميز بين الصورة الفوتوغرافية بوصفها علامة أيقونية Signe iconique، وبين اللسان la langue بوصفه نسقا مؤولا لمجمل الفعل الإبداعي الإنساني. ولعل التقاطع بين ما هو أيقوني وما هو لساني بوصفهما يشكلان معا علامة، هو ما جعل أغلب الدراسات اللسانية والسيميائية في بداية القرن العشرين تخلط بين الحقلين، وتدرسهما في إطار شامل هو اللغة، وبالتالي تغفل الفوارق النوعية بين التعبير الأيقوني والتعبير اللساني. ومن ثمة، فإن أول خطوة منهجية تقود إلى تحديد الصورة الفوتوغرافية، وتعيين أنماط اشتغال المعنى داخلها، تتمثل في ذاك التمييز الذي جاء به "إميل بنفنست" في معرض حديثه عن الأنظمة السيميائية التي تحمل دلالة –وهي هنا اللسان- والأنظمة السيميائية التي لا تدل، وهي التي تتحقق في الموسيقى والرقص وأشكال التعبير البصري(2).


في ضوء هذا، يمكن القول إن الصورة الفوتوغرافية نسق سيميائي غير دال بنفسه، يشتغل وفق علاقة خاصة بين مجموعة من العناصر التي تحدد لها خصوصيتها وتمايزها. فإذا كانت العلامة داخل النسق اللساني تتميز بالطابع الاعتباطي Arbitraire في علاقة الدال بالمدلول: "السلسلة الصوتية: ق.ط.ة، لا تحيل بالضرورة على مفهوم قطة"، فإن العلامة الأيقونية –على العكس من ذلك- تتميز بخاصية تعليلية "Motivé". فبين صورة الحصان من جهة، وحقيقته المرجعية كحيوان في العالم من جهة أخرى علاقة مشابهة. ولعل هذا ما حذا بـ"غي غوتييه" Guy Gautier إلى القول: "إذا كان ثقل اللسان يتجه نحو الاعتباطية، فإن الصورة الفوتوغرافية تزن أكثر إلى جانب التعليل"(3). على صعيد آخر، يمكن تعيين خاصية أخرى للصورة الفوتوغرافية من خلال رصد اختلاف آخر يميز النسق اللغوي عن النسق البصري.


فإذا سلمنا بأن اللسان la langue يشتمل على تمفصل مزدوج double articulation، بموجبه تنفصل العلامة اللسانية le signe linguistique إلى عناصر التمفصل الأول، وهي الوحدات الدالة unités signifiants، أو المونيمات، وعناصر التمفصل الثاني وهي الوحدات الدنيا غير الدالة، أو الوحدات المميزة unités distinctives أو الفونيمات، فإن الحديث عن هذا التمفصل المزدوج داخل العلامة الأيقونية يعد أمرا صعبا كما ذهب إلى ذلك "أمبرتو إيكو"(4)، أو مأزقا في منظور مارتين جولي(5).


من هنا، يمكن القول إن الصورة الفوتوغرافية تشتغل وفق وحدة تامة تقدم نفسها على شكل كلية totalité. فمجموع العناصر المشكلة للعلامة الأيقونية تفرض على المتلقي تصورها بوصفها وحدة شاملة يصعب التقديم أو التأخير في نظامها المتجانس. إن هذه الوحدة هي التي تنتج الصدمة le choc لدى المتلقي، وتحفز عملية الاستقبال لديه، وتشحن في الآن نفسه فعله التأويلي بإمكانات متعددة.


هكذا، نلاحظ أن الوحدات المركبة للصورة الفوتوغرافية بانبنائها على مبدأ التماثل Analogie من جهة، وخضوعها لسلطة الكلية من جهة أخرى، تنفلت من عملية التقسيم الثنائي (دال ومدلول). وهو ما جعل أشكال تعبيرية أيقونية (الإشهار أو الصورة الإشهارية والحكاية المصورة la bande dessinée) تضطر إلى إقحام ملفوظات لسانية إلى جانب الصورة حتى تتمكن من إحداث شرخ في المتواصل continuité، وتمنح بالتالي المتلقي فرصة تقسيم الخطاب البصري إلى مشاهدة بالعين واستماع بالأذن. إن غياب التمفصل المزدوج في الصورة الفوتوغرافية، والارتباط القوي والعميق بالمرجع، والامتثال لقيود إكراهات الآلة الفوتوغرافية، كلها عناصر تجعل القراءة والتأويل يحتشدان بالاحتمال والنسبية.


من هذا المنطلق، يمكن طرح قضية الدلالة والتدليل في الصورة الفوتوغرافية، وكيفيات تحول المرجع الفوتوغرافي من الحياد والصمت إلى علامة، وإلى نص لا ينفلت من لعبة المعنى. وهو الطرح الذي يستدعي –في نظرنا- مستويين اثنين على الأقل في قراءة الصورة الفوتوغرافية:


ـ المستوى الأول: هو الداخل-الأيقوني intra-iconique بوصفه يحيل على أسلوب وإخراج misen en scène معنيين.


ـ المستوى الثاني: هو الخارج-الأيقوني extra-iconique، أو ما يسميه ECO بسنن التعرف le code de la reconnaissance.


إن رصد هذين المستويين في علاقتهما الجدلية والمتداخلة يقود إلى تحديد وجهة نظر الفاعل الفوتوغرافي، ورؤيته للعالم. وهي الرؤية التي تعين مسار الصورة، إطارها، ومواضيعها، إيقاعاتها وألوانها، بكلمة واحدة: طريقة تمثيلها. فإذا كان المستوى الأول من القراءة يرتبط بإدراك الصورة الفوتوغرافية في أبعادها الفنية والتشكيلية والتقنية، وينحصر في التعامل مع ظاهرية الصورة Phéno/mage في استقلال عن فاعلها l’actant، فإن المستوى الثاني يرتبط بالتدليل أو التأويل، أي (الحديث عن قيم دلالية تعد الصورة مهدا لها، أي تقديم الصورة من أجل التمثيل لقيمة ما أو قيم ما)(6).


انطلاقا من هذا المستوى، تصبح الصورة الفوتوغرافية انبناء structuration وليست بنية، تدليلا signifiance، وليست دلالة فحسب حيث يتم تحديد البعد الآخر، غير التماثلي، وغير المحاكي للصورة، أو الرسالة الثالثة le troisième message على حد تعبير R.Barthes، أي تحديد العلاقات بين الأشكال الأيقونية التي يمثلها إطار الصورة الفوتوغرافية وبين السنن الثقافي العام le code culturel الذي تنبثق داخله. إن الصورة الفوتوغرافية بهذا المعنى، تصبح إدراك ذاتي للعالم وتتحول إلى (معطى دلالي خارج ذاتها، إلى شيء يمرن فهمنا، وإدراكنا للنظر، قدرتنا التجريدية، تدريبنا المنطقي، مشاركتنا في الثقافة والتاريخ)(7).


من هذه الزاوية تحديدا، يمكن القول إن ممارسة التدليل في الصورة الفوتوغرافية، وتحيين actualiser دلالاتها المتعددة، لا يمكن أن ينجزا إلا من خلال التزود بمنظومة معرفية وبلاغية بصرية تمكنا الفعل التدليلي من إعادة تنظيم الأشياء والكائنات والمواضيع، وترتيبها وفق ما يتطلبه التنظيم الخاص بالصورة الفوتوغرافية من جهة، وما يشترطه السنن الثقافي العام من جهة ثانية. بمعنى آخر، إن التسليم بتعدد المعاني داخل الصورة الفوتوغرافية، وانفتاحها على مقاربات مختلفة، لا يفضي بالضرورة إلى القول بالحرية اللامشروطة في عملية التأويل ما دام هذا الفعل المشروط بالنسق الثقافي العام، وبالبنية الشكلية للعمل la structure formelle de l'oeuvre على حد سواء.


عود على بدء:


لعل ما يبرر مشروعية البحث السيميائي للصورة الفوتوغرافية، هو هذا الاكتساح الملفت الذي فرضته الصورة الفوتوغرافية بتجلياتها وأشكالها المختلفة في حياتنا اليومية. فهي تغمرنا في البيت، في الشارع، في المؤسسة. ولما كان المجتمع والثقافة السائدة يميلان كما يرى Barthes إلى تطبيع naturaliser البعد الرمزي والثقافي والإيديولوجي للصورة، فإن اللجوء إلى المقاربة السيميائية يعد في منظورنا خطوة هامة في الكشف عن القيم الدلالية، وإعادة المعنى غير المرئي للصورة والإنسان والتاريخ.


























الاثنين، 26 أكتوبر 2009

هابرماس والتواصل









ملاحظة هذا البحث منقول من الأنترنت ولم تتوفر في الصفحة التي نقل منها ما يدل على مؤلفها أو مصدرها أو عنوانها الأصلي











مقدمة:


يبدو أن هابرماس بقدر ما اهتم بإشكالية الحقيقة داخل تصوره العام لمسألة اللغة والتواصل بقدر ما حاول الإقتراب من ضوابط الحوار وأخلاقياته، وذالك في إطار اهتمامه الأساسي بمسألة الكلام واللغة العادية والمناقشة وادعاءات الصلاحية. ومن أجل الكشف عن مستويات امتلاك الحقيقة – من خلال النقاش وأخلاقياته، وتقييم مختلف النظريات التي حاولت معالجتها وتحديدها- انطلق هابرماس من أعمال بعض اللسانيين وفلاسفة اللغة ولا سيما أوستين وسورل وكارسكي . وقد حاول طرح مجموعة من الأسئلة التي عمل علي اقتراح بعض عناصر الجواب عنها من خلال مناقشة النظريات التي قاربت مسألة الحقيقة ولذالك انطلق هابرماس من سؤال يمكن صياغته كالتالي: ماذا يمكن أن نقول حين نتساءل: هل هذا صادق أم كاذب؟ وللإجابة عن هذا السؤال تأتي اللغة لاقتراح مجموعة كبيرة من الصيغ سواء ما تعلق منها بالقضايا Propositions بالتلفظات énonciations أو بالملفوظات énonces... ذالك أن قضايا مختلفة لنفس اللغة يمكن أن تترجم نفس حالات الأشياء، كما أن هذه القضايا مصوغة في سياقات مختلفة للخطاب يمكنها كذالك أن تترجم حالات مختلفة من الأشياء. لذالك يلاحظ هابرماس أنه أمام هذه المسالة اقترح "أوستين" "أن الموضوع الذي يمكن أن نسميه بشكل مشروع، بأنه حقيقي أو كاذب لا يتعلق بالقضايا، ولكن بنوع معين من التلفظات وهي الإثباتات assertions لأن القضية تكون فقط مكونة من كلمات بينما باستعمال هذه الكلمات والقضايا التي تكونها ندعم إثباتا معين، ويعتبر هابرماس أنه بإثبات شيء ما، فإنني أعلن عن إدعاء يؤكد أن ما أثبته حقيقي، وأن ما أدعيه يمكن أن يكون خطأ أو صوابا لأن الإثباتات لا تكون صادقة أو كاذبة وإنما مبررة أو غير مبررة.


فاختلاف النقاش يتحدد من الوجهة الإجرائية والوظيفية أساسا، فالنقاش يقتضي وجود طرفين أحدهما عارض وآخر معروض عليه، هذا النقد في التفاعلات الحوارية يعكس تعداد في الذوات المتخاطبة بشكل يسمح بتصنيف المتخاطبين إلى فئات نذكر منها ثلاثة: فالسائل قد يكون : أ- متعلما: هدفه اكتساب المعرفة والزيادة في التعلم ولهذا يرجى من الطرف الثاني أن يكون بمثابة الطبيب الذي يتحرى شفاء السقم، فيبين المعالجة على ما يقتضيه المرض لا على ما يحكيه المريض. ب- مستشكلا: يرغب في أن نوضح له ما استشكل عليه. ج- متشككا: يقوم شكه على النتيجة أو طريقة التدليل أو هما معا. وقد يكون مختصا معاندا مخالفة أو غلطا.


للإحاطة بمختلف أنواع الأسئلة التي يمكن أن تطرح، على المجيب أن يحقق جملة من الشروط التي تمكنه من تنويع الأجوبة بتعدد الأسئلة وتنوع السائل. إذا مناقشة المستشير لا تجب أن تماثل في مفاهيمها ومسائلها مناقشة المتشكل. كما أن المناقش المعاند المختص لا ينظر إليه بنفس الكيفية والطريقة التي بها ينظر المعاند الغير المختص فالمفترض أن تراعي المناقشة عدة مقتضيات من بينها مقاصد المناقشين، بحيث أن: أخلاقيات النقاش تقتضي أن يكون الجواب مدللا ومفهوما لا غلط فيه ولا تقليد.


- وأن يكون متطلبا رفع الإشكال وإزالة موضع العناد.


- يتبين مكمن الغلط في حين أن الجواب على الطالب المختص المعاند بالمغالطة تكون بالتمويه والتغليط حيث يقصد من وراء هذا اختبار مدى تمكن المعاند من صناعته. لهذا تسمى هذه المعاندة "امتحانا" ويطلق على صاحبه "السائل الممتحن". أما متى لم يتمكن المجيب والذي تم إقناعه – من الكشف عن مكمن التمويه والتغليط دل ذالك على عدم كفايته ولهذا يستحسن سد كل الثغرات التي يمكن أن ترد في الجواب والتي يمكن أن يستغلها الخصم لإتمام إضافات.


* الفروع القائمة بين أنواع النقاش وهي كما أقامها أرسطو بين أنواع المخاطبات).


أ- مخاطبة برهانية: يدور الكلام بين معلم ومتعلم، وعليه وجب على التعلم أن يلقن الحقيقة وعلى التلميذ تقليدها.


ب- مخاطبة جدلية: منها يعرض كل من المتناقشين للآراء الذائعة والمشهورة ويحاولان الكشف عن التناقضات التي تتضمنها لحلها معا. وتتألف من المسلمات أو المشهورات


ج- مخاطبة خطابية: تقوم بين من يدافع عن رأيه مستندا إلى علم يثبته ويسعى إلى أن يقتنع غيره به. إنها تلك التي تتكون من المقدمات المظنونة أو المقبولة.


د- مخاطبة سوفسطائية ومغالطة: يوهم صاحبها محاوره بأنه انطلق من مقدمات يقينية أو مشهورة ليضلله ويغلطه أو يضخمه ويلزمه شنعة، ففيها يستنبطن الشخص أمورا معايرة لما يظهره.


يستفاد من هذا أن لكل تبادل حواري أركانا تتمثل في المتكلم والمخاطب وموضوع التخاطب، وكلها تتفاعل فيما بينها لتحقيق غرض أو أغراض معينة ظاهرة أو باطنة، فتحقيق مقاصد النقاش يتطلب تدبر المنظور فيه في إطار تعاوني وضمن شروط نظرية وعملية لا يمكن بدونها أن يمر الحوار في جو سليم ويحقق النتائج المتوخاة منه وبما أن المراد الأسمى والأمثل من كل نقاش هو جلب المصالح (العامة) ودرء المفاسد (عن الكل) فإن تحقيق ذالك يتطلب رسم طريقة تحرك النظر وتتدبره بسبل عقلانية. كما أن نجاح كل تفاعل حواري يتطلب الإلتزام بقواعد مضبوطة ومحددة. وتحدد هذه القواعد بجعل منها ما هو نظري وما هو عملي وما هو عام وما هو خاص ونجمل هذه المقومات في:


أ‌- المناقشة في المجالس: قد تتخذ هذه المجالس حكما بين المتنازعين بأن يشكل مجالا للشهادة لأحد المتناظرين والشهادة على الطرف الآخر، لهذا ينصح بعضهم باجتناب مناظرة تتم في مجلس يعوق جريانها الطبيعي ولا يسوى بين المتنازعين. كما ينصح باجتناب مجالس يسودها الخوف والترهيب والإكراه والوعيد ولا تستهدف بتمييز الحق عن الباطل، ضمن أخلاقيات النقاش تفادي التعنت والتباهي والهذر، وأن يكون هدفه الغلبة فقط. أما إن لم تعلمه حتى فاتحته بالكلام فعليك إما بالإمساك عن مناظرته، أو الإحتراز منه واستخدام الأساليب التي تليق بأمثاله، فإن عرفته مغالطا أو رأيته يكرر القول الواحد أو استهزأ بكلامك فلا تتركه يميد في فعلته. وإن أصر على موقفه فبإمكانك أن تصده عن ذالك وتقاطعه. بمقتضى هذا ذهب بعض الدارسين إلى استرذال جريان المناظرة في مجالس خاصة أو عامة (أو في بعضها على الأقل) لكونها تساعد على ألا يجري المتناظران منظارتهما على عرف واحد. وفي هذا تكمن أهمية البدء بتحديد من تجلس إليه، إذا لناس فئات وطبائع.


ب‌- وجوب أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في جلب مصلحة أو درء مفسدة ولهذا قيل ما لا داعي له هذيان وما لا سبب له هجر، ومن سامح نفسه في الكلام إذاعن ولم يراع صحة دواعيه وإصابة معاينة كان قولا مرذوللا ولهذا يطلب أن يكون أصحاب الحوار (المناقشة) على علم بموضوع المناظرة والقصد منها. كما أن تمكين الخطاب من مجموع مقوماته يقتضي بناؤه بشكل يجعله يستجيب للعنصرين الأساسين التاليين:


1- أن يتوجه المتكلم إلى المخاطب بكلام، القصد منه إبلاغ الخطاب بطريقة معينة وإعلام المخاطب بأن الخطاب تم بتلك الطريقة.


2- تمكين المخاطب من التعرف على المقصود المتكلم وإن كان قاصدا إلى ذالك ولم يصدر عنه سهوا أو غلطا أو تغليطا. بحيث يتفق ما تم تبليغه مع كون هذا التبليغ تم بطريقة محددة تحصل معها السكينة لدى المتلقي.


3- أن يلزم الحضور بما فيه المتناقشين الخشوع والتواضع وأن يحفظ كل منهما قدر الآخر بتجنب استصغاره والاستهزاء به والتشنيع عليه والإساءة إليه قولا أو فعلا كما أن عليه تجنب الكذب والشبهة والرفث والعناد ولا يناظر النظير مناظرة المسترشد، بل يناظر كلا على حقه. ولا تجعل همك هو النيل من مخاطبك والظفر به وإلزامه في النقاش.


فهابر ماس يرى أنه لا يمكن الحديث عن التواصل إلا بافتراض وجود خطاب، وعالم معيش، فالتواصل خطابا سيسيولوجي وليس فلسفي ولا ميتافيزيقي، فهابرماس يفكر انطلاقا من الواقع وهو ما سماه عالم المعيش. كيف السبيل في عالم يعيش المتناقضات لقضاء تستحضر فيه النقاشات؟ فالتداول لابد أن يسند إلى لغة تداولية. فهابرماس في هذا المجال استعان بكتابات أوستين (أفعال الكلام) واستعان ببارماد (نظريات الحجاج). ولكنه لم يقتفى بدربهما وإنما حاول أن يسلك طريقا خاصا في -التعامل مع اللغة. عندما نتكلم عن النقاش الحجاجي فنحن إذن أمام نقاش صحيح. فهو النقاش الذي يكون كل واحد يريد أن يفرض وجهة نظره وبالتالي هو نقاش منظم يريد به صاحبه أن يقنع بواسطة البراهين – بصلاحية دعواه، بمعنى أنه نقاش جدي، وهو النقاش الذي يريد به صاحبه- في موضوع ما، في قضية ما- إثبات حجته.


النقاش الحجاجي الجاد هو نقاش منظم: أي أنه يروم موضوعا ما، أي إثبات صلاحية دعواه وإثبات عدالة قضية ما، بمعنى أن صاحبه لا يحاجج بسوء نية وإنما من أجل إثبات قضية ما.


لمن الحجة الأقوى بين الناس وهم يتداولون؟ هذا النوع من الحجاج الجاد يتميز بثلاث مسائل:


أ‌- ينتظم ضمن متوالية حوارية: بمعنى أن هذا الحجاج في وضع يختلف عن ما هو سردي، ولا يدخل السرد في مجال النقاش.


ب‌- بعد سياسي: لا يمكن أن نتصور نقاشا سياسيا من دون استخدام العقل، واستخدام العقل يقتضي وجود حرية التفكير وحرية التعبير ويفترض أن يكون النقاش والحجاج ضمن فضاء، لا يمكن أن يكون هناك نقاش وحوار إلا متؤسس على العقل وعلى قضية الديموقراطية.


ت‌- بعد أخلاقي: بمعنى أنه يفترض أن هناك نمط من السلوك والاحترام الذي يسمح تبادل الأفكار فيما بين المتناقشين بمعنى أن النقاش يقتضي حضور سلوك أخلاقي مستوحى من العقل العملي (القانون) من هذه الزاوية يمكن أن تقول إن هذه الأبعاد الثلاثة هي ما يميز نقاشا حججيا عن غيره من النقاشات الأخرى. فالنقاش الحججي هو الذي يقبل العقل حكما. يجب أن تخضع حججنا ودعاوينا للنقاش لأنه شرط للتراضي ولاجتناب أنواع التهكم والعنف اللغوي أو اللفظي في مستوياته المادية أو الرمزية. فأخلاقيات النقاش لا تلزمك بفعل شيء أو تركه، فهذا النقاش له طابع إجرائي، فمشروعية هذا النقاش لا تقوم إلا من خلال اختيار وامتحان دعاوي ومقدمات الأطراف، وهذه الشروط هي:


أ‌- شروط مادية: أن يظهر المتناقشان بمظهر مقبول. فمن الناس من ينظر إلى من قال لا إلى ما قيل فخلقته وهيأته تلعبان دورا أساسيا في عملية النقاش ذالك أن المستمعين يتأثرون بكل الظروف الخاصة بالنص وكيفية أدائه وإخراجه بما فيه من استغلال للصوت وإحكام للألفاظ والإشارات، وغيرها من المسائل الخاصة بهيأة ومظهر الشخص. فهذه الشروط تلعب دورا أساسيا في استمالة المستمع وجلب عواطفه حتى يتمكن القول فيه، وما دام التجاوب النفسي بين المتكلم والسامع يساعد على تحقيق الهدف فلابد للناظر من خصال نفسية تشد أزره وتقوي عزمه ليمضي في كلامه وفق ما يقتضيه المقام.


ب‌- الصدق في القول والإخلاص في العمل: ما أثبته بقولك عليك تزكيته بعملك، ولا تحاجج إلا بمالك به علم وما تعتقد بصدقه، وعليك بالسعي إلى الحق وترك الباطل ولا تتبع الهوى فتلبس الحق صورة الباطل ولا تبتغي بنظرك التكسب والمباهات، وامتنع عن الرياء والفحش وكل أسباب الفتنة والفرقة، وتجنب اللمز والمواربة والعناد، وكل طرق الاحتيال والتذليل.


ت‌- المناسبة والملائمة في الكلام: ما دام الغرض من الكلام هو الإعلام والإفهام فيجب توخي المناسبة فيه بأن تأتي به في موضعه، فلكل مقام مقال. فلا تورد في كل موضع من الكلام إلا بقدر ما تحتاج إليه .










































حقيقة النقاش والإجماع عليه


حاول هابرماس طرح مجموعة من الأسئلة التي عمل على اقتراح بعض عناصر الجواب عنها من خلال مناقشة النظريات التي قاربت مسألة الحقيقة. وأول سؤال طرحه يمكن صياغته كالتالي: ماذا يمكن أن نقول ومن ثم فإن "الحقيقة" هنا تشير إلى الاستعمال والإستقرار لأن الصلاحية المبررة لادعاء ما تضمن تحقيق انتقادات يحدثها إدعاء معين.


أما السؤال الثاني: الذي اقترب منه هابرماس فهو متعلق بما يسمى بنظرية الحقيقة التكرار ذالك أنه إذا كان صحيحا أن كل القضايا من نوع "ب صادقة" فإن تعبير "هي صادقة" غير ضروري من الناحية المنطقية وبالتالي فإن كل النظريات المتعلقة بالحقيقة ليست ضرورية. ومع ذالك يلاحظ هابرماس، أن نظرية الحقيقة- التكرار يمكن أن تعتمد على ملاحظة صحيحة وهي أنه حين نقول بأن "ب صادقة" فإن ذالك لا يضيف أي شيء إلى الإثبات "ب" لأنه بإثبات "ب" فإنني أعبر عن إدعاء على صدق "ب" وهنا يتجلى المعنى التداولي للإثباتات. إن معنى هذه العلاقة الخاصة بين إدعاء الصلاحية والإثبات الساذج أو المشكوك فيه يمكن إظهار معناه من خلال العلاقة التي توجد بين المناقشات والأفعال ذالك أن هابرماس في إطار ما يسميه ب"النشاط" يدخل مجال التواصل الذي فيه تفترض ونعترف ضمنيا بادعاءات الصلاحية المتضمنة في الملفوظات وفي الإثباتات بهدف تبادل المعلومات فتحت لفظة مناقشة أدخل شكل التواصل المتميز بالبرهنة. وهذا ما يسمح بالإجابة عن السؤال المتعلق بالحقيقة التكرار. ذالك أن هابرماس يرى أنه "حينما نكون أمام أفعال تواصلية، فإن تفسيرا لادعاء الصلاحية معبرة عنها من خلال إثباتات يكون تكرارا، لكنها في المقابل ضرورية في المناقشات.


أما السؤال الثالث: المرتبط بصلب الهاجس الذي يحرك تفكير هابرماس بخصوص الحقيقة، فإنه يتعلق بالفرضية الأساسية لنظرية "الحقيقة-التطابق" وهو يصوغ سؤاله بالطريقة التالية: "ما هي العلاقة الموجودة بين الوقائع التي نثبت وموضوعات تجربتنا؟" ويقول هابرماس إنما يحق لنا إثباته، نسميه واقعا. والواقع هو ما يشكل حقيقة ملفوظ ما، لذالك نقول بأن الملفوظات تترجم وتصف وتعبر عن وقائع". ويعتبر هابرماس أنه في سياق البرهنة يمكن أن نعتمد على التجربة. ولكن لكي نعتمد، منهجيا، على التجربة، في حالة التجريب مثلا، فإننا نضطر للرجوع إلى تأويلات لا يمكن أن تتضح صحتها إلا داخل المناقشة. وبالتالي فإن التجارب تصبح كقواعد استنادا لادعاء الحقيقة التي تعبر عنها التأكيدات. وطالما لا نواجه تجارب غير مطابقة، فإننا نتمسك، عموما بهذا الإدعاء للحقيقة. غير أن هابرماس يرى أن كل ذالك لا يكتسب مصداقيته إلا بواسطة براهين لأن إدعاء مؤسسا على التجربة ليس إدعاء مبررا بشكل مباشر. ويعترف هابرماس أن مفهوم الحقيقة في التراث الفلسفي كان دائما يأخذ بعدا أكثر تجريدا واتساعا مما يسميه ب"حقيقة الملفوظ" وكثيرا ما اتخذت الحقيقة معنى "العقلانية" غير أن هابرماس يحدد ما هو عقلاني ليس فقط بالإثباتات، ولكن أيضا بنماذج أخرى من أفعال الكلام مثل المعايير والأشخاص. ويعتبر هابرماس أن هناك على الأقل أربع أنواع من إدعاءات الصلاحية وهي المعقولية، الحقيقة، الدقة، الصحة وهذه الإدعاءات تشكل كلا يمكن تسميته ب"العقلنة" ولهذا السبب يرى هابرماس أن "نظرية إجمالية للحقيقة" يجب أن لا تقتصر على حقيقة الملفوظات لأن المسألة تدخل فيها اعتبارات الدقة والصدق والمعقولية.ثم إن الإجماع يكمن، بالضبط في كون هذه الإدعاءات الأربعة يجب أن يكون معترفا بها من طرف المتكلمين المشاركين في المحاولة أو المناقشة.


وهكذا يمكن أن تدعى معقولية التلفظ، وحقيقة تكوينه القضوى، ودقة تركيبه التلفظي وصدق النية المعبر عنها من طرف المتكلم" ومن ثم فإن تواصلا غير استراتيجي، أي ذالك الذي يحصل فيه تفاهم سيجرى بدون اصطدام .


ويلاحظ هابرماس أن هذه الإدعاءات الأربعة للصلاحية ليست كلها قابلة لأن تبرر بواسطة المناقشة إذ أنه لا يمكن أن نعتبر "الإستنطاقات" أو الحوارات التحليلية بين المريض والمحلل مناقشات في اتجاه البحث التعاوني عن الحقيقة، لذالك فإن هابرماس يميز "الصدق" بوصفه إدعاء للصلاحية غير خطابي عن إدعاءات الصلاحية الخطابية التي هي "الحقيقة" و"الدقة"، غير أن الأمر لا ينطبق على إدعاء المعقولية.


فعندما تكون القواعد لغة المستخدمة من طرف أحد الأطراف غير واضحة بما فيه الكفاية ولا يفهم القضايا الملفوظة (على المستوى الدلالي، النحوي بل وحتى الصوتي) فإن كلا الطرفين يمكنهما أن يتوصلا إلى اتفاق حول اللغة التي يستعملان بهذا المعنى، فإن المعقولية يمكن أن تحسب مع إدعاءات الصلاحية الخطابية" . ومع ذالك فهناك اختلافات بين مستويات إدعاءات الصلاحية الخطابية. ففي الخطاب اليومي وفي إطار من التفاعل، فإن إدعاءات الحقيقة والدقة تستغل باعتبارها إدعاءات تكون مقبولة أخذا بعين الإعتبار إمكانية تبريرها بواسطة المناقشة عند الإقتضاء، أما المعقولية فهي ضرورة ما دام التواصل يتم بدون صدام وبالتالي فإنها ليست مجرد وعد. لذالك يحسب هابرماس المعقولية من بين شروط التواصل وليس من بين إدعاءات الصلاحية المعبر عنها داخل التواصل سواء كانت خطابية أو غير خطابية، ولذالك فإن هابرماس يرى أنه من الضروري ضبط الروابط الموجودة بين إدعاءات الصلاحية من جهة والنوايا وتجارب اليقين المقابلة لها من جهة ثانية. لأنه حينما أفهم أو أعرف شيئا ما، أو عندما أعترف بصلاحية هذا الشيء، أو حين أصدق شخصا ما، فإنني أكتسب، في كل مرة، أشكالا مختلفة من اليقين، وهي مختلفة لأن إدعاءات الصلاحية تختلف عن اليقين بطابعها الذي تكون فيه الذوات متفاعلة ومتداخلة. ومع ذالك فإن هابرماس يرى أنه حين أعبر عن إدعاء الصلاحية فإنني أكون متيقنا من ذالك، أي أنني أحوز يقينا من تعبيري عن هذا الإدعاء. ولذالك فإنه يخلص إلى أن الحقيقة تتحدد بالبرهنة مقرا أن البرهنة لا يمكن أن تدعى الوصول إلى مستوى القوة الإجمالية إلا ذا ثبت أنها لا تكتفي بالاعتماد على علاقة ما بين نسف لغوي والواقع، أي على علاقة المطابقة والملائمة.


إن الأمر عند هابرماس لا يتعلق بالالتجاء إلى نظرية الحقيقة –التطابق، وإنما يعتبر أن تقدم المعرفة لا يمكن أن يكون إلا في شكل نقد أساسي للغة، بل إنه يذهب بعيدا في سياق التأكيد على النظرية الإجمالية للحقيقة. فالإجماع هو نتاج مواقف وممارسات متفاوض عليها، وبالتالي فالحقيقة ليست تتويجا لتأمل منعزل كما هو الحال في التراث الفلسفي الميتافيزيقي، كما أنه ليست هناك حقيقة واحدة أو مطلقة، لأن الحقيقة المثالية ليست إلا كذبا أو إدعاءا زائفا يخفى وراءه مصالح محددة.


لذالك فالحقيقة عند هابرماس لا تنفصل عن رهانات الكلام واللغة المتداولة، بل إنما تنبعث من داخل المحادثات وصيغ التبادل، الهادئ تارة والساخن تارة أخرى، الذي يحصل بين الذوات المنتجة للتواصل ومن هذا المنطلق فإن هابرماس يساهم بنظريته الإجمالية للحقيقة في "جنازة" الحقيقة المتعالية وفي الوهم الدائم بامتلاك الحقيقة الواحدة ولا سيما في زمن خلقت فيه الحداثة صيغا متعددة للحوار وللصراع ومجالا عموميا له آليات تكشف عن مختلف الحقائق في سياقات ومجالات للقول متحركة دوما .


وفي المحصلة نقول إن النقاش هو أساس التواصل وأن التواصل عند هابرماس غدا الفاعلية الوحيدة التي في إمكانها إعادة ربط الصلة بين أطراف هذا العالم متقطع الأوصال، عالم فقد كل مرجعياته ونقاط ارتكازه، وانقطعت صلة الحميمة بالإنسان، وعوض التقدم والمحبة والسلام ساد الاستبداد والعنف، حتى صار هذا العنف كما يقول إريك فاي موضوعا محوريا من مواضيع الفلسفة في المرحلة المعاصرة. إن المفارقة الكبرى، وهذه اللحظة ربما تمثل اللحظة الثالثة في تراتبية اللحظات المؤثرة – سلبا- في مبحث فلسفة التواصل، هي أن هذا التواصل الأصيل الذي نفتقده جميعا، وليس هابرماس وحده يتم على مرأى ومسمع من الثورة الكبيرة التي يعرفها عالم الإتصال والإعلام بمعناه الإبلاغي الآلي المباشر. ثورة شملت كل مناحي الحياة في أدق دقائقها، ووصلت إلى أبعد نقاط الأرض وأكثرها انعزالا. أليس هذا التناقض الواضح بين تواصل إنساني مرغوب ولكنه مفقود، وبين وفرة إعلامية شكلانية جعلت الإنسان أكثر غربة، بل أكثر اغترابا وأقل تواصلا. هنا مكمن الخطر الذي كان قد تنبأ به عالم المستقبليات والسوسيولوجي الأمريكي ألفين توفلر. ومن هنا فإن التجربة التواصلية تأتي من العلاقة التفاعلية التي تربط شخصين، على الأقل داخل العالم المعيش وفي إطار من التوافق اللغوي والتذاوتي. ومن ثم فإن كل شخص أو فاعل يملك القدرة على الكلام والفعل يمكنه أن يشارك في التواصل، وأن يعلن إدعاءاته للصلاحية، لكن شريطة أن يراعي مقاييس المعقولية والحقيقة والدقة والصدق.


إن التجربة التواصلية تأتي من العلاقة التفاعلية التي تربط شخصين على الأقل، داخل العالم المعيش وفي إطار من التوافق اللغوي والتذاوتي. ومن ثم فإن كل شخص أو فاعل يملك القدرة على الكلام والفعل يمكنه أن يشارك في التواصل، وأن يعلن عن إدعاءاته للصلاحية، لكن شريطة أن يراعي مقاييس المعقولية والحقيقة والدقة والصدق. وتأكيد هابر ماس على هذه المقاييس يرجع سببه إلى إلحاحه على قضية التفاهم داخل مجال عمومي حديث لبلورة نوع من "النظرية الإجمالية للحقيقة" من جهة، وإلى حرصه على نسج علاقات تواصلية غير خاضعة لأي نوع من أنواع الضعف والسيطرة من جهة أخرى. ولذالك فإن نظرية الفاعلية التواصلية، بالرغم من تأكيدها على أهمية التفاعل اللغوي أو بسبب هذا التأكيد، فإنها تؤدي إلى التفكير في شروط إمكان ما هو مجتمعي نفسه، وبالتالي إلى التفكير في المجتمع بصفة عامة.


فالهدف من التفاهم هو الوصول إلى نوع من الاتفاق يؤدي إلى التذاوت المشترك وإلى التفهم المتبادل وإلى التقارب في النظرات والآراء وهذه الأبعاد من التذاوت تقابلها ادعاءات للصلاحية تتمثل في المعقولية والحقيقة والدقة والصدق والتي يستند عليها كل شكل من أشكال الاتفاق، ومن ثم فإن"التفاهم هو العملية التي من خلالها يتحقق اتفاق معين على الأساس المفترض لادعاءات الصلاحية المعترف بها باتفاق مشترك.


























































المراجع المعتمدة


1*محمد نور الدين أفاية - الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة ، - نموذج هابر ماس، إفريقيا الشرق، المغرب، طبعة ثانية 1998، ص82






2*حسان الباهي، الحوار والمنهجية التفكير النقدي، إفريقيا شرق، طبعة 2004، ص:31.


3*جان مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة عمر امهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر 2006، ص:75.




الحوارية أفقا للتفكير




الحوارية أفقـا للتفكيـر






محمد الحيرش*


-I-


لا ترجع الأفكار الواردة في هذه المقالة إلى زاوية محددة من زوايا النظر التي تجعل من قضايا الحوار موضوعا للمقاربة والاشتغال. فالحوار ممارسة تتعدد المقاربات التي تتولاه بالبحث والدراسة، وتتفاوت بشأنه الخلفيات النظرية والفلسفية المؤطرة لأبعاده ومستلزماته. لذا، فما يعنينا بالتحديد فيما يلي من فقرات، لا يعود إلى الحوار بما هو موضوع لواحدة من المقاربات الفلسفية أو المنطقية أو التداولية الخ، وإنما يعود إلى التفكير فيه من جهة كونه "دعوى" يدافع عنها من يرون في وجوب اعتماده، بين الذات والآخر أو بين مختلف المجموعات الثقافية والحضارية، ضرورة للتساكن والتعايش[1].


ومن جملة ما يميز هذه الدعوى انطلاقها من اعتبار الحوار حلا يفضي بالمتحاورِين إلى تجاوز أسباب الخلاف، ومظاهر الصدام المفترض وجودها بينهم. فهي دعوى تأتي المرافعة عنها في سياق مضاد لدعوى أخرى تتصف بانغلاقها على الذات، واحتمائها بهوية شديدة الحساسية تجاه الآخر، وتجاه أفعاله وأحكامه التي تنعت في الغالب بالتسلط والاستعلاء.


وعلى الرغم من أن الواقع الذي توجد عليه مختلف تجليات العلاقة بالآخر لا يبعث تلقائيا على ما يسمح بالحوار ويشجع عليه، فإن من يعتبرون أنفسهم دعاته يظلون غاية في التشبث بمثله القادرة على درء الصراعات وتجاوزها. وبذلك لا يمثل تنامي العنف، في نظر هؤلاء الدعاة، ولا تفاقم مظاهر الإقصاء والعنصرية، ولا بروز نزوعات جديدة للهيمنة على الشعوب، سوى بواعث على الحوار، وعوائق يتعين الاستعانة به على تذليلها وتجنبها. فالحوار عندهم يمثل أقوم سبيل إلى بناء طوبى (utopie) كونية جديدة تنعم فيها كل من المجتمعات والثقافات والأديان بعلاقات من التآلف والتفاهم.


لهذا، ليس غريبا أن لا يكترث دعاة الحوار ولا يبالون حين يدحض الواقع دعواهم، وحين لا يحتمل خطابهم أيَّ قدر من الفاعلية والإنجازية. ذلك لأن الحوار عندهم هو أساسا "عقيدة" قبل أن يكون ممارسة وسلوكا؛ ومن ثم، فقيمته لا تكمن في انطباقه وتحققه في الواقع، بل تكمن في مرجعية مجردة من المثل والأخلاقيات التي تضبطه وتؤسسه. فلا سبيل، إذن، إلى قياس نجاعة الحوار بحدود تصريفه في الممارسة، وبالعوائق التي تعترض مجرياته، ولكن بما يكون به منظومة من المبادئ المتعالية على الواقع. إذ كلما كان المتحاورون متطابقين مع هذه المنظومة ومنضبطين لمعاييرها المجردة، امتد بينهم الحوار وجلب المكاسب المرجوة منه. وكلما انحرفوا عن ذلك، اختلَّت بينهم العلاقة، واتسعت مسافة الفرقة والتنابذ، دون أن يكون لذلك عند أولئك الدعاة أي تأثير على تلك المنظومة، لسموها وتعاليها.


-II-


وليس من شك أن الاعتقاد في الحوار بهذا المنزع الأخلاقي وبهذه الخلفية المعيارية المجردة يُغيِّب أبعادا جوهرية واستلزامات عديدة تفيد أن الحوار ليس منظومة متعالية من المبادئ والمثل التي ننشد التطابق معها خلال ممارساتنا الحوارية. فمن ينطلق في تجربة حوارية ما من المراهنة على تأمين صيغة من التطابق مع مرجعية سابقة على مجريات انعقاد الحوار، لن يكون حقا منتجا لفعالية حوارية منفتح جريانُها على الاحتمالات غير المحسوبة، وعلى قبول الاختلاف والتعايش معها. بل سيكون مشاركا في "طقس" منغلق على شعائره، ولا يروم إلا إعادة إنتاج حقائقه الجاهزة. إن الحوار لا يتحقق في تجربة تواصلية محددة على نحو يمكن أن يخضع فيه لمنطق من الحقائق يوجد خارج تحققه، ويمثل له أساسا مرجعيا لن ينزاح عنه. إنه فعالية لا "تنضبط" إلا لسيرورة حدوثها في واقع تواصلي تقوم فيه بين الذوات المتحاورة علاقات حيوية من التفاعل والتذاوت intersubjectivité))[2]. وهو بهذا يتنافى مع كل توجه يقضي باختزاله في نسق مغلق من المبادئ الناجزة، ومع كل قصدية مسبقة تروم كبحه وتأطيره في غاية من الغايات المرسومة سلفا. إن الحوار لا يحيل على أي ضرب من ضروب التطابق والاختزال، سواء تعلق الأمر بالذوات المتحاورة في علاقتها ببعضها، أم تعلق بالحوار نفسه في علاقته بمرجعية من المرجعيات القائمة. فلا وجود فيه لمرجعية سابقة على جريانه يسعى المتحاورون إلى الإحالة المطابقة عليها؛ بل هناك فعالية حوارية تجري بين كائنات واقعية (غير مجردة) لها وجود زماني ومكاني، وعبر اندراجها المحايث في هذه الفعالية، ومن داخل سيرورة تحققها تنشئ مرجعيتها الحوارية الخاصة، مما يفضي بكل واقعة حوارية تنعقد في الزمان والمكان إلى بناء مرجعية لصيقة بها ومختلفة عن المرجعيات اللصيقة بالوقائع والتجارب الحوارية الأخرى. وبذلك لا يمكن أن نتحدث عن مرجعية مثالية وقارة تمثل المآل المنشود لمختلف الممارسات الحوارية، فمآلات الحوار مآلات متفاوتة ومتباينة تبعا لتفاوت الشروط والاعتبارات التي تستحكم في المتحاورين، وتبعا لتباين مقاصدهم وتنوعها. كما لا يمكننا أن نتحدث عن الحوار بالمعنى الذي تظل فيه الذوات المتحاورة مشدودة إلى التطابق مع ذاتيتها، فالتوسل بحوار مزعوم من أجل أن تبقى الذوات متحصنة في تطابقها وانغلاقها لا يولد، في نهاية المطاف، إلا أشكالا من إرادة السيطرة المُسَوِّغة للصدام والمواجهة بكافة تجلياتهما المادية والرمزية.


إن الحوار تفاعل وانفتاح تمعن فيه الأطراف الإصغاء إلى بعضها إصغاء لا مجال فيه لأي شكل من إرادة الاحتواء والسيطرة، احتواء طرف لآخر والسيطرة عليه. إنه تعرف متواصل على الذات وعلى الآخر في استرسال تفاعلهما، وتقويض لكل نزوع يقضي بتوحيد الذوات في ذات واحدة، أو بتذويب وعي كل منهما في وعي الآخر. ففي الحوار لا تروم ذات من الذوات الحلول في أخرى، ولا إقامة علاقة بها من التوحد والتماهي. كما لا تتحدد فيه للمتحاورين أدوار مرتبطة بطمس الاختلافات وقطع دابرها من أجل بناء "توافق" من التوافقات. انتهاء تجربة حوارية إلى توافق ما لا ينهض دليلا على اجتثات الاختلافات وقبرها، ليصير هذا التوافق كما لو كان مرادفا لأحادية رأي ذات من الذوات. فمن يتأمل حقيقة التوافق سيجده منبنيا على علاقة حوارية يشترك المتحاورون على نحو تفاعلي في نسجها وبسطها فيما بينهم. إنه حدث حواري لا يحيل على وحدة الذوات المتحاورة وتجانس آرائها، بل هو إحالة مضمرة على تعددها وتقاطبها[3] (polarité). وهو تعبير عن أن الاختلاف وعدم التجانس في الرأي هما واقعان تقبل بهما هذه الذوات وتتعايش معهما، لأنهما مدارا تفاعلها وتذاوتها. وبالطبع، فحين تنزع هذه الذوات إلى استئصال هذين البعدين (= الاختلاف وعدم التجانس) وتنحيتهما من كينونتها، فإنها تؤول إلى التطابق ولا تنتج إلا صيغا من المونولوجات monologues)) التي تناجي من خلالها ذاتيتها المتقوقعة على هويتها ويقينياتها.


وارتباطا بهذا، لا تعتبر علاقة كل ذات بأخرى علاقة حوارية دون الوعي بالمسافة الاختلافية القائمة بينهما. فعند انتفاء الوعي بهذه المسافة لا يغدو الآخر إلا مجرد "موضوع" خارجي لوعي الذات لنفسها، أي مجرد موضوع خارج تيقن الذات من هويتها وتطابقها. انتفاء الوعي، إذن، باختلاف الذوات على نحو سواء يفضي إلى إقصاء الآخر واستبعاد الحوار بما هو فعالية تذاوتية لا وجود فيها لذات منغلقة على نفسها، بل لذوات متعددة ومنفتحة على اختلافاتها. لذلك، لا توجد في الحوار ذات تعتقد في تملكها وعيَها تملكا ناجزا، فوعيها يتشكل عبر "مرآة" الآخر وعبر استحضاره بعدا حواريا مقيما في كينونة هذا الوعي. ومن ثم، لا يمكننا أن نتحدث عن الوعي بوصفه نشاطا ذاتيا مغلقا؛ لأن وعينا لا يتحدث إلينا بصوت voix)) وحيد مطابق لذاتيتنا، بل "يتحدث إلينا بصوتين مستقلين عن بعضهما ومتعارضين في قصودهما"[4]: أحدهما صوت الذات والثاني صوت الآخر الموجودان في علاقة متواصلة من الحوار والتفاعل. فحديث الذات إلى نفسها لا يعكس "اكتفاء ذاتيا" لهذه الذات بنفسها، كما لا يتحقق عبر قناة مونولوجية monologique)) ذات وجهة "حوارية" أحادية ومسكوكة. إنه يتخذ صيغة مناظرة صريحة ومفتوحة تدخل فيها الذات في حوار مع نفسها ومع الآخرين عن طريق اعتماد استراتيجيات تواصلية متعددة من قبيل: إثارة الأسئلة أو الإجابة عنها، وإبداء الموافقة على رأي أو الاعتراض عليه، والدفاع عن مشروعية قرار أو تفنيده دفاعا عن مشروعية قرار آخر، الخ[5]. فهذه الاستراتيجيات وغيرها هي ما يجعل من كل حديث داخلي للذات مع نفسها حديثا حواريا لا أثر فيه لأي مظهر من مظاهر اكتفاء الذات بنفسها؛ ذلك لأن الذات المكتفية بنفسها والمحتمية بتطابقها لا يمكن العثور عليها إلا حيث يسود المونولوج، ويهيمن الانغلاق المقترن بالإقصاء والكراهية. أما في الحوار، بما هو فعالية وحدث جارٍ (لا بما هو بنية مجردة ومنغلقة على مبادئها)، فلا وجود إلا للتذاوت، أي لذوات منفتحة على بعضها وتتفاعل فيما بينها وتتحاور دونما قابلية للمطابقة فيما بينها، أو لاختزال بعضها في البعض الآخر.


وهكذا، لا يمكن اعتبار الحوار "أداة" تسخرها ذات من الذوات لإملاء مواقفها وتقويماتها على الآخرين، وجعلهم مجرد معيدين لأصدائها ومقتنعين قسرا بصلاحياتها. فبمثل هذا التصور الأداتي للحوار تظل الذات سجينة وهم وعيها لنفسها على نحو مونولوجي، أي على نحو أحادي ومطابق. كما أن استحالة الحوار إلى أداة تصطنعها الذات، أو استحالته إلى وسيلة تلوذ إليها ضمن علاقة بالآخر خارجية وغير متكافئة، يُغَيِّب كون الحوار يقع في صميم تحديد الذات، وكونَه يقع في مدار كينونتها ومنبع هويتها. إن الحوار ليس بعدا موجودا خارج الوجود المحايث للذات، كما لو تعلق الأمر بواقع خارجي مستقل بنفسه تلجأ إليه الذوات للوفاء بحاجياتها وأغراضها التواصلية. الذات لا توجد إلا في الحوار، فهو "مسكنها" وفيه تقيم، وبذلك يمتنع في اللغة أن نهتدي إلى ذات مختزلة إلى ذاتها، أي إلى ذات تقع خارج اللغة وخارج الحوار. إننا لا نجد في اللغة إلا ذاتا تتكلم مع الآخرين وتتحاور معهم تحاورا يجعل من تقاطب الذوات وتفاعلها بعدين جوهريين لا يستقيم من دونهما حدث التواصل. ولنا في اللغات الإنسانية ما يشهد من داخل انتظامها اللساني على نزوعها الحواري. فالضمائر الشخصية ليست سوى أجلى تعبير عن هذا النزوع، لأنها أخص القرائن تعبيرا عن العلاقات الحوارية التي تقوم في لغة من اللغات بين الذاوت، ولأنها مما لا يمكن تصور خلو لغة معينة منها[6].


واللافت للانتباه في هذه الصيغ اللسانية المسماة ضمائر هو عدم قبولها التحديد نفسه الذي يصدق على عموم الدلائل signes)) الأخرى في اللغة، فهي لا تحيل ككل دليل لغوي"لا على مفهوم(concept) ولا على فرد individu))". ذلك أنه يستحيل أن يوجد، على سبيل المثال، مفهوم لضمير المتكلم (أنا ـ je) تندرج تحته مختلف الأنوات التي يستعملها المتكلمون في كل لحظة تخاطبية مثلما هو الأمر مع أي مفهوم لغوي آخر تندرج تحته جميع استعمالاته الفردية (مفهوم الشجرة مثلا…)[7]. فضمير المتكلم لا يحيل على فرد ولا على كيان خارجي، وإنما يحيل على اللحظة التي يكون المتكلم فيها بصدد الكلام، وهي لحظة "فعل التخاطب" التي يتوجه فيها إلى مخاطب تربطه به علاقة حوارية متبادلة. ولهذا، توجد الذات في اللغة مقترنة أشد ما يكون الاقتران بزمن محدد هو الزمن الذي تكون فيه منتجة للكلام، أي ما يتواضع عليه في المعرفة النحوية بزمن الحال (présent). ويكفي أن نتأمل تعريفات النحاة القدامى لعلاقة الذات المتكلمة بهذا الزمن لنجدها لا تقيم فصلا بينهما، لأنهما متلابسان. يقول أحد النحاة: "فعل الحال هو المتكون في حال خطاب المتكلم"[8]، وهو ما يفيد أن إدراك الذات المتكلمة لصيق بإدراك اللحظة الزمنية التي تنجز فيها خطابها، كما أن إدراك هذه اللحظة لصيق أيضا بوجود ذات متكلمة لا يمكن أن تتخذ تلك اللحظة دلالتَها وحيزَها التكويني إلا من خلالها.


إن مثل هذه الأوصاف اللسانية المرتبطة بتحديد الوضع الذي تتخذه الذاتية في اللغة يبرز، إلى حد بعيد، كيف تتمنع كل ذاتية على الاختزال، وكيف تتمرد على نوع من التحديدات الميتافيزيقية التي تَؤول بمقتضاها إلى موجود (étant) ساكن يعلو على الزمن، ولا يطابق إلا ذاته. فسواء في معرفة حديثة كاللسانيات أم في معرفة تقليدية كالنحو، لم تفلح الآلة الصورية في بناء صياغة تجريدية للذات بناء خالصا وخاليا من أي التباس بما يشهد من أبعاد على تجليها الزماني والحواري؛ بل تقر هذه الآلة باستحالة إدراك هذه الذات خارج تحققها في زمان ومكان محددين، وخارج ما يربطها بذوات أخرى.


وللإشارة، فإن ما سبق الإلماح إليه من الوجهة اللسانية يجد ترجمته الفلسفية في إطار ما يعرف اليوم بالانعطاف الهيرمينوطيقي (= التأويلي) (le tournant herméneutique) الذي لم يعد في ضوئه يُفكّر فلسفيا في الذات بما هي بنية مجردة أو هوية مغلقة؛ وإنما بما هي فعالية تتحقق في تجربة معيشة، وحدثانٌ في الزمن[9]. وتكمن أهمية هذا الانعطاف في كونه يمثل توجها نقديا لما آلت إليه ذاتية الحداثة من انغلاق وتطابق، ومن انفصال عن كل ما يمت بصلة إلى الحياة في مختلف تجلياتها المعيشة. ذلك أن الإدراك العقلاني المطابق للذات، كما رسخه فكر الحداثة، أضحى خاضعا للنقد، لا لكون تحديد الذات فيه بني على أساس خاطئ أو مخالف للحقيقة، بل لكونه جعل من هذه الحقيقة صورة قارة غير موصولة عراها بدينامية الحياة وجريانها.


ولعل السبيل النقدي إلى كسر هذه الصورة القارة التي حُشرت فيها ذاتية الحداثة، وكشفِ مآزقها هو العودة إلى الذات بروح يتجلى فيها العقل متفاعلا مع تجربة الحياة، خاصة وأن الفصل بينهما لم يفض بالحداثة إلا إلى مصير أضحى فيه العالم عبارة عن خطاطة خاضعة للتنظيم والتخطيط الجذريين، واختزلت بموجب ذلك "كل (تجربة) إنسانية، وكل خبرة فردية، وكل فرادة شخصية إلى لحظة تقاس كافة عناصرها وتُتوقع بالعد والإحصاء"[10].


ومن غير شك، فإن القول بالتفاعل بين تجربة العقل وتجربة الحياة يتخذ أوجها متعددة، فهو من جهة أولى تفاعل بين الخبرة بالحقيقة في مجالات العلوم الحقة، وبين الخبرة بها في مجالات العلوم الإنسانية. وبهذا يتم العدول هنا عما يجعل من إحدى هاتين الخبرتين معيارا للأخرى، أو أساسا تقيس عليه صلاحيتها على نحو ما تجلى ذلك في النزعة العلمية (scientisme) التي عاملت كل ما يصدر عن الإنسان من أنشطة وفعاليات معاملة العلم الطبيعي لأشيائه وموضوعاته. فهذا الوجه من التفاعل يراد منه التأكيد أن العلاقة بالحقيقة لا تتم عبر خبرة وحيدة ونموذجية تنسحب مقتضياتها النظرية ومعاييرها المنهجية على باقي الخبرات الأخرى، بل تتم عبر خبرات متنوعة لكل منها علائقها بالحقيقة، ووجهاتها المخصوصة إليها[11].


ومن جهة ثانية، وارتباطا بالوجه السابق، يفيد التفاعل بين العقل والحياة أن الحقيقة ليست فقط ما تمثله الخبرة بها في العلم الحق، وأن ما دونها ليس سوى مجرد "خيالات" أو "مجازات" تقف على هامش موضوعية هذه الحقيقة و"وحدانيتها". فبقدر ما للخبرة العلمية طرقُها الموصِلة إلى الحقيقة، بقدر ما للخبرة الجمالية والفنية (ومختلف الخبرات الإنسانية الأخرى) طرقها الموصلة أيضا إلى الحقيقة بدرجة لا تقل أهمية وموضوعية عن الحقيقة في الخبرة العلمية[12]...


أما من الجهة الثالثة، فيتخذ التفاعل المشار إليه وجها من "التحالف الجديد" بين الإنسان والطبيعة، بحيث لا تصير هذه الأخيرة موضوعا للسيطرة المفضية إلى الاستنزاف والتدمير من قبل الإنسان، بل فضاء للاستكشاف المعلي من قيمة الحياة[13]...


إثارة هذه الأوجه من التفاعل بين تجربتي العقل والحياة ليس الغرض منه في الفكر الفلسفي المتواضَع عليه اليوم بفكر ما بعد الحداثة (post-modernité) إلا البحث عن السبل التي تكون من خلالها علاقة الذات بالعالم وبالآخر علاقة أقل عنفا وأكثر اعتدالا. ولبلوغ علاقة بهذه الملامح، يكفي أن تعيش الذوات على نحو إنساني وجودَها الدنيوي (séculaire) في العالم، أي على نحو "يمكن للحياة أن تجري فيه ضمن آفاق أكثر حوارية وأقل عنفا ودوغمائية"[14].


-III-


يستخلص مما تقدم أن الحوار يدخل في صميم تحديد الذات، وفي صميم علاقتها بالآخر. ومهما قد يبدو على هذا الاستنتاج من بداهة، فإن ما يترتب عليه من أبعاد واستلزامات يتجاوز حدود حوارية الذات ليمتد إلى علاقتها بحوارية الوجود. فالعلاقة بهذا الوجود وبمختلف ما يتجلى فيه لا تتأتى بالنسبة إلى الذات إلا من خلال اللغة، أي من خلال الحوار؛ إذ إن كل ما يمكن أن يكون "ماثلا" أمام ذات معينة من ذوات أخرى أو من وقائع ونصوص لا تستقيم العلاقة به إلا عبر أفق من آفاق الحوار. فالعلاقة بنص من النصوص، مثلا، أوسع وأعقد من أن تختزل إلى علاقة ذات عارفة بموضوع مجرد. إنها علاقة ذات بأخرى يتمرد فيها النص على كونه مجرد كينونة "خرساء" لا تستطيع الكلام إلا بإخضاعها لإجراء "الاستنطاق". النص ذات ناطقة وقادرة لا فقط على التحدث عن نفسها، بل قادرة كذلك على أن تتكلم وتتحاور مع غيرها من الذوات، وعلى أن تسائلهم وتصوغ رؤاهم إلى أنفسهم وإلى الأشياء من حولهم.


النصوص، إذن، كائنات حوارية بامتياز، لذا لن نستغرب حقيقة لجوئها إلى ما يمكن اعتباره "استفزازا" بليغا عندما تلوذ إلى الصمت رافضة كل علاقة بها غير قائمة على الإصغاء والحوار المتبادل، ومستنكرة كل سلطة تقضي بـ"تشييئها" وإحكام السيطرة عليها. وهي بهذا الرفض والاستنكار تفهمنا أن الحوار الحق لن يتحقق إلا بالتجرد من مثل هذه النزوعات التسلطية، ولن يتأتى إلا بالتحرر من ترسباتها المعرفية والأخلاقية. فقلما نعثر على أولئك الذين يقصدون نصا بقراءة من القراءات وقد تحرروا من تلك النزوعات وأتاحوا لأنفسهم ترجمة قدر من الود والتواضع تجاه ما يقرؤون. لهذا، كلما استشعرت النصوص أن من يقصدها هو على غاية من الاطمئنان إلى هويته ويقينياته، وشديد الحرص على "عدم تواضعه، وعناده من أجل إرادة البقاء هو ذاته أمام ما يقرأ"[15]، أشاحت بوجهها عنه وتركته متماديا في غلوائه ومتقوقعا في انغلاقه.


وإذا كانت النصوص تفهمنا أن حقيقة الحوار لا ترتبط فعاليتها إلا بالانفتاح والتفاعل واستحالة التطابق، فذلك لأن "كل حوار حق يستلزم منا أن ننحني أمام الآخر، وأن نمنح وجهة نظره اعتبارا كافيا، وأن ننفذ إلى ذهنه لا لكي نفهم الفرد، وإنما لكي نفهم ما يقول"[16]. وبهذا المعنى يتحقق الحوار عبر ذوات متفاعلة ومنفتحة على بعضها بعيدا عن أي وجه من وجوه الاستعلاء المذعِن فيه بعضُها لمواقف البعض الآخر. فالحوار، كما سبق بيانه، ممارسة تذاوتية تفضي بالمتحاورين إلى بناء أشكال من التفاهم التي لن يكون فيها كل طرف إلا غير ما كان عليه عند انطلاق الحوار. إذ إن التفاهم أفق تفاعلي لا تنتظم فيه الذوات المتحاورة جنبا إلى جنب وعلى نحو خطي(linéaire) ومتساكن؛ وإنما هو لحظة دينامية من تحققات كل ذات على حدة. ذلك لأن الذوات لا تسعى فيه إلى تكرار أنفسها أو إملاء البعض منها لمواقفه واقتناعاته على البعض الآخر، واكتفاء هذا الآخر بتسجيل هذه المواقف والامتثال لها. ففي الحوار لا ننتهي فرادى أو جماعات إلى تفاهم فعال، إلا إذا اعتبرنا أن هذا التفاهم لا ينتسب إلى أي منا، وأنه بالأحرى يمثل أفقا جماعيا جديدا لتفاعلنا وحواريتنا.[17]


وفي أفق من هذا القبيل ليس من مكان، بالطبع، لأصل يمكن أن يمثل منطلقا للحوار أو مرجعية لانعقاده، ولا لمركز يمكن أن يتقاطع عنده المتحاورون ويرجعون إلى ما تمليه عليهم سلطه التقويمية في إسناد هذه القيمة أو تلك إلى مآلات حواراتهم. فمجال العلاقات الحوارية هو مجال لانتفاء أي نوع من المركزيات ذاتية كانت أم جماعية أم ثقافية، الخ. وعند استناد علاقة من العلاقات إلى مثل هذه المركزيات، فإن ذلك لن يقود إلى حوار متكافئ بين الأطراف، وإنما إلى ما يسوغ الهيمنة ويكرس التراتب. ولعل هذا ما يجعل من المنازع المرتكزة على ضرب من الأصوليات (العرقية أو الثقافية أو الدينية، الخ) تؤسس وجودها على استبعاد كل علاقة حوارية ممكنة بالآخر. فالآخر لا معنى له هنا إلا عندما يقلع عن اختلافه وغرابته، ويتحول إلى نسخة مطابقة لتلك المنازع، ومتماهية مع أنماط عيشها ووجودها. لذا لا ترى الأصوليات على اختلافها في الحوار مدخلا إلى الانفتاح على الآخرين وإدراكهم في تنوعهم واختلافهم، بل ترى فيه أداة لمجادلتهم ومساجلتهم. فبالمجادلة والسجال لا تتوخى علاقة بالآخر تقوم على التكافؤ والاعتراف المتبادل، وإنما علاقة أحادية الوجهة تختطها الذات الأصولية لاحتواء الآخر، وغصب آرائه وأفكاره. ومن ثم كانت المنازع الأصولية دوما منازع معادية للحوار، ولما يتصل به من تفاعل وانفتاح وتقويض للتطابق. وحيثما يمكن أن تسود واحدة من هذه المنازع لا يمكن العثور إلا على العنف بجميع تجلياته، وعلى إرادة الهيمنة والتسلط. لذلك، وفي ضوء ما سبق، لن تكون الحوارية إلا أفقا من العلاقات التي تتهاوى عند انبساطها بين المتحاورين مقومات كل نزعة أصولية داعية إلى الانغلاق على نفسها، ومعتقدة في الحقيقة المطلقة لأفكارها ووجودها.


-IV-


وهكذا نستطيع القول، في ختام هذا المقال، إن الإشكال الذي صغناه في البداية (الفقرة:1)، والقاضي باعتبار الحوار دعوى أخلاقية تلتزم بالدفاع عنها عينة من الخطابات في تصورها للعلاقة بالآخر، يظل من جهات متعددة إشكالا مجردا بعيدا عن حقيقة الحوار كما يجري في الواقع ويتحقق في الممارسة. فلقد بينا أن الحوار ليس منظومة متعالية من المعايير والأخلاقيات التي يحرص المتحاورون على أن تكون حواراتهم متطابقة معها بنحو من الأنحاء. الحوار أساسا فعالية ومماسة ينخرط فيها المتحاورون، وهي التي تفضي بهم مجرياتها إلى مآلات لا تعود نسبتها إلى أي منهم، لأنها مآلات يشتركون تفاعليا في بنائها والاهتداء إليها. إننا في الحوار لا نندرج في لحظة ساكنة نتوقف عندها لنحتفي فيها بتكرار أنفسنا واجترار يقينياتنا. إنه أصلا لحظة دينامية تتجدد فيها الذات وتتعرف على نفسها من خلال تفاعلها مع الآخرين. لذلك يبقى الحوار الحق أفقا وجوديا رحبا يندرج فيه المتحاورون ذواتا كانوا أم جماعات أم ثقافات، الخ، ويَنشدُّون فيه إلى بعضهم وإلى العالم بأواصر وعلاقات قوامها الاعتدال في مواجهة العنف، وقوامها الانفتاح في مواجهة الانغلاق، والحوارية في مواجهة الدوغمائية والأحادية.


________________________________________


* - كلية الآداب- تطوان.


[1]- تشكل اليوم الخطابات الداعية إلى الحوار ظاهرة متنامية تعقد لها الندوات والملتقيات وتنظم لها المؤتمرات على امتداد أرجاء الوطن العربي. والغالب على هذه الخطابات أنها موجهة بدافع التصدي للأطروحة القائلة بـ "صدام الحضارات"، مما يصبح معه الحوار بديلا دعويا ولفظة سائرة تستعمل دونما مراعاة لتعقيداتها واستلزاماتها المتعددة.


[2] - سبق لمؤلف هذا المقال أن تناول بالتحليل في سياق آخر مفهوم «التذاوت» من وجهة نظر لسانية وهيرمينوطيقية، انظر:


- محمد الحيرش (1997)، الذاتية والغيرية بين اللسانيات والهيرمينوطيقا، ضمن أعمال ندوة «خطاب الغيرية»، منشورات جامعة عبد المالك السعدي، تطوان.


[3] - عن تعدد الذوات وتقاطبها في الحوار يمكن مراجعة:


- Volochinov/ Bakhtine,1929, Marxisme et philosophie du langage, tr.fr., Minuit, 1976.


- E.Benveniste, 1958, De la subjectivité dans le langage, in Benveniste, Problèmes de linguistique générale, Cérès Editions, 1995.


[4]- Volochinov,1930, Structure de l’enoncé, p 294, in T.Todorov, le principe dialogique, Seuil, 1981.


[5] - فولوشينوف (1930)، ص 294-295.


[6] - بنفنست (1958)، ص 260.


[7] - بنفنست (1958)، ص260-261.


[8] - أبو القاسم الزجاجي، الإيضاح في علل النحو، تح. مازن المبارك، ص87، دار النفائس، 1986.


[9] - انظر:


- G.Vattimo, 1989, Ethique de l’interprétation, tr.fr., La découverte, 1991.


[10] - فاتيمو (1989)، ص113.


[11]- H.G.Gadamer, 1960, Vérité et méthode, tr.fr., Seuil, 1976.


[12] - غادامر (1960).


[13] - انظر


- Prigogine/Stengers, 1979, la nouvelle alliance, Gallimard.


[14] - فاتيمو (1989)، ص113.


[15] - M.Blanchot, (1955), L’espace littéraire, p 236, Gallimard.


[16] - G.Warnke, (1987), Gadamer : herméneutique, tradition et raison, p 131, tr.fr., Editions Universitaires, 1991.


[17] - وارنك (1987)، ص131.




عن مجلة فكر ونقد


Il pleut sur Bruxelles

Ne me quitte pas

Chanson sans parole

On n'oublie rien

الجمعة، 23 أكتوبر 2009



الموضوع : الزوج المفهومي



وثيقة من إعداد الأستاذ: محسن الشّعابي


الموضوع : الزوج المفهومي



يقوم هذا النوع من المواضيع على إقامة علاقة بين مفهومين أو معنيين، وان بدا هذا النوع غير متداول كثيرا ؛ لنأخذ مثالا على ذلك: الجمال والحقيقة، أو السعادة والرفاه، المساواة والإنصاف، العمل والسعادة، التواصل والكونية...

- إنّ هذا الشّكل من المواضيع يطرح مشكلا مفترضا لكنه غير محدد.

- يحيل الموضوع إلى سياقات متعددة.

- كلية المفهوم واختزاله لمعاني كثيرة.

- إنّ الترابط العضوي بين المفهومين هو الذي يشكل المشكل الذي وجب معالجته.

- نلاحظ أنّ مقارنة المفهومين تكشف عن بعد أساسي يتصل بالمعيش ويكتسب أهمية في مجالات متعددة للتفكير.

- إنّ المطلوب معرفة أي علاقة يمكن تأسيسها بين هذا المفهم وذاك.

- وجب إعداد تخطيط يتسم بحركية التفكير من خلال أشكلة العلاقة والتركيز عليها.

- لا يوجد معنى معطى للموضوع وإنما يتعلق الأمر بمقارنة بين مفهومين أومواجهة.

- إنّ المشكل الفلسفي يكمن في استشكال العلاقة بين المفهومين.

- إنّ البحث يهدف أساسا إلى كشف أو بلورة مختلف التداخلات الممكنة للعلاقة المقترحة وبالتالي تحديد طبيعة العلاقة ومضمونها الحقيقي وبالأخص تحديد مختلف الصيغ التي تكوّن الإشكالية.

كيف نعالج الموضوع؟

إنّ أحسن طريقة لمعالجة الموضوع في مقاربة أولية هي طرح سؤال: ماهي الدواعي التي تقود إلى إقامة علاقة بين هذين المعنيين؟ ثم ما الذي يدفع إلى مواجهة هذين المفهومين؟

يكفي أن نجيب عن هذا السؤال بالإستعانة بوجهتي النظر المختلفتين ولكن المتكاملتين.

ما الذي يجعل التقابل، التقارب، الواجهة بين المفهومين أمر لازم؟

أو في أي إطار لا يمكن للمفهومين أن يحددا أو يعرفا إلا في علاقة متبادلة بينهما؟

هل العلاقة المقترحة بينهما تغطي علاقة واقعية موجودة في مجال الممارسة؟ هل هذه العلاقة بناءة؟

في أي سياق؟ تحت أي أسباب؟ من أجل أي أهداف يحق لنا أن نقيم علاقة؟ هل في سياق تاريخي أو ثقافي أو أنتروبولوجي ما تطرح العلاقة؟

1 لمَ نواجه بين معنين؟ وهل هذه المواجهة لامفر منها؟

2 هل التقارب المقترح بين الموضوعين يحيل إلى علاقة واقعية.

3 في أي سياق وتحت أي أسباب ومن أجل أي هدف؟



المضامين الممكنة للعلاقة:

مقارنة منطقية: تقاطع، تخارج، تضمن...

علاقة قائمة على التناظر، تناسب: مختلفان لكن لهما نفس البناء.

علاقة ذات بعد واقعي.

الضرورة التبادلية: يتبادل المفهومان المواقع: السبب يتحول إلى نتيجة والعكس.

توجد تقنيتان لبناء علاقة بين المفهومين:

1- التساؤل حول المبرر من وراء العلاقة: مثال: هل يوجد في هذا المعنى ما يحتمل علاقة ما بالمعنى الآخر؟ هل في هذا المعنى ما يتطلب حضور المعنى الآخر؟

2- تنويع مجالات التطبيق أو العلاقة بين المفهومين: معالجة العلاقة بين المفهومين في ميدان معين ثم في ميدان آخر مع التساؤل: هل يحمل معنى معين في كل ميدان وما طبيعة العلاقة؟ تطابق، تفاعل، تجاور، اختلاف...

العمل التحضيري:

1- التساؤل عن دواعي إقامة علاقة بين مفهومين: ما الذي يحملنا على مواجهة مفهومين؟

2- النظر في أوجه العلاقة الممكنة بين المفهومين: تنافر، تقاطع، مماثلة، اشتقاقية، تبادل، تلازم...

3- رصد المجالات التي تتعين داخلها هذه العلاقة لجعلها علاقة ذات دلالة.

4- تعيين مرجعيات ممكنة لمعالجة الموضوع.

اقتراح تخطيط:

مقدمة: تمهيد: دواعي إقامة علاقة بين المفهومين.

طرح المشكل: ماهي طبيعة العلاقة بين المفهومين؟ هل تقوم على هذا الشكل أم على شكل آخر؟( تقليب أوجه العلاقة)، ما هي فضاءات التفكير التي تتنزل فيها؟ ما هي المسارات الواقعية التي تجسد ذلك؟ وما الهدف المنشود من وراء دراسة هذه العلاقة؟

الجوهر: التحليل

-لحظة أولى: تحديد أولي للمفهومين بما يفضي إلى الشّروع في تناول العلاقة.

- لحظة ثانية: تقليب أوجه العلاقة وتمعينها: مثال علاقة تقارب ثم علاقة تباعد أو العكس، إقصاء أو تضايف ...( نلاحظ أن الموضوع هو الذي يفرض نوعية المقاربة)

- لحظة ثالثة: تنزيل العلاقة ضمن حقل إشكالي وسياقات فلسفية أنتروبولوجية إبستيمولوجية...

- يمكن تخيّر علاقة بعينها ثم تحديد الرّهان من وراء دراسة العلاقة.

ملاحظة: لا وجود لنقاش في مثل هذا النوع من المواضيع.

ملاحظة: يمكن تخير معنى وسيط أو مفهوم ثالث يتجاوز السابقين .















الموضوع: العمل والعدالة.*

العمل التحضيري

1- المفهمة

* العمل: ممارسة إنسانية يجتمع فيها الفكر والحركة من أجل تحويل الطبيعة أو الأشياء إلى حاجات إنسانية. يمكن كذلك أن يكون في مجال فكري إنتاجا هادفا للأفكار وهو في كل الحالات يمارس اجتماعيا في علاقة بالآخرين فيتنزل قيميا، أخلاقيا وسياسيا ويتنزل ميتافيزيقا في علاقة بالماهية والاعتبار ومعنى الوجود.

* العدالة: مطلب يطرح في مجال علاقة الفرد بغيره وتفيد العدالة (Justice فرنسية، من اللاتينية Justitia، منJustus "Just" عدل، إنصاف) مفهوم يقتضي ضمناً معاملة منصفة، أخلاقية ونزيهة مع كل الناس. وفي معناه الأكثر عمومية، يعني انسجام الأفراد مع ما يستحقونه فعلياً أو هم جديرون به، أو في معنى ما هم مؤهلون له (المفهوم اللاتيني الكلاسيكي لـ unicuique suum). فالعدالة مفهوم أساسي على نحو خاص في معظم أنظمة "القانون"، ويصنف إلى حد كبير مع القيم والتقاليد الاجتماعية المؤسَّسة والمعتبرة. ومن منظور البراغماتية، العدالة هي المسمى للنتيجة العادلة. وفي إطار العمل تحيل العدالة إلى ما ينتظره العامل من تكافئ بين جهده وأجره من إنصاف وبينه وبين زملائه وأرباب العمل من مساواة.

تتنزل العدالة إذا في إطار القيم الأخلاقية والسياسية لتواجه قيما أخرى مثل الاستغلال والاستبداد والتي هي بدورها متأثرة بمعايير قيمية أخرى تهيمن على التوجهات الاجتماعية مثل النجاعة والمردودية والتكالب على الربح.

الصيغة:

زوج مفهومي في علاقة جدلية تحظر فيه العدالة في إطار ما يحف بالعمل من قيم ونتائج ويواجه العمل قيم أخرى وظروفا تحيد به عن معالمه الإنسانية فيحتاج وعيا قيميا ملازما لإنقاذ اعتبار الإنسان وحفظ حقوقه .

كشف علاقات التواصل والتنافر بين المفهومين بما يعمق الوعي بالقضايا الإنسانية التي تحف بعلاقتهما نحو بلورة موقف إنساني كوني يعيد تمثل ظروف العمل وفق القيم السامية للعدالة .

التمهيد:

يمكن الانطلاق من الإشارة إلى تعاظم القلق الإنساني المعاصر حول ظروف العمل وما يحيط بها من استغلال وتراجع لاعتبار العامل مما يستدعي مراجعة مفاهيم أساسية مرتبطة بالعمل أساسها مفهوم العدالة

طرح الاشكال:

أي قيمة للعدالة في واقع العمل؟ والى مدى يمكن لايتيقا العدالة مواجهة واقع العمل؟



الجوهر:

مدخل مفاهيمي ينزل العمل كممارسة تحيط بها دائما ظروف اجتماعية اقتصادية وتقنية وسياسية تحدد وضعيتها وتفرض عليها نظامية ما تحدد العلاقة بين جهد العامل والأجر وعلاقات العمل والمردودية. وتنزيل العدالة كمطلب يريد به الإنسان تفعيل قيم فرعية مثل الإنصاف والمساواة بحثا على ما يحفظ حقوق العامل واعتباره وتكافئ جهده وكفاءته وأجره.

المستوى الأول:

كشف العلاقة المتأزمة بين العمال وأرباب العمل من جهة والظروف الاقتصادية والسياسية العامة للمجتمع من جهة أخرى والتي أثارت قلق الإنسان في العمل تجاه قيمة العدالة المفقودة وذلك ببيان :

1- أن العامل يعاني من عدم تكافئ بين جهده وأجره نظرا لتكالب أرباب العمل على الربح دون إنصاف العمال وهذا ما نكتشفه في مظاهر مختلفة للاستغلال والاضطهاد وسلب الحقوق وبالتالي غياب العدالة كمطلب إنساني يتطلع إليه العمال بحثا عن حقوقهم في الأجر وحفظا لاعتبارهم الإنساني المسلوب.

2- إن الظروف الاقتصادية والسياسية العامة تمثل عقلنة نظامية للاستغلال والاضطهاد تدفع خاصة في الأنظمة الرأسمالية أو اقتصاد السوق إلى سيادة قيم المردودية والنجاعة دون اعتبار للعدالة الاجتماعية وحقوق العمال ولابد من الانتباه إلى العلاقة الوثيقة بين الاستغلال المباشر الذي يمارسه أرباب العمل و هذه التوجهات الاجتماعية.

المستوى الثاني:

1- الانتقال إلى كشف الوعي بمشكل العدالة كمطلب إنساني مباشر يتطلع إليه العمال وكقضية كونية لابد أن يطرحها الفكر في توجهاته النقدية للظروف الاجتماعية حيث الاستلاب والاغتراب لقيم العدالة في قيم النجاعة والمردودية خاصة وأن الحل الاشتراكي قد وقع هو الآخر في بيروقراطية قد استعادت الطبقية في سيطرة رجال الدولة .

2- تنزيل هذه القضية تنزيلا ايتيقيا في المساعي التأسيسية الإنسانية نحو التكامل والتكافل والتساوي بين أفراد المجتمع دون ميز عنصري على أساس الجنس أو اللون أو المرتبة الاجتماعية وضد الجشع والنهم وهضم حقوق العمال نحو التحرر من المفاهيم النظامية المغتربة في الأنظمة الاستغلالية والتفكير خارجها في ما يجب أن يكون عليه الإنسان اعتبارا وماهية.

خاتمة:

يمكن الانتهاء إلى عمق الأزمة القائمة في المجتمعات المعاصرة الرأسمالية والاشتراكية في ما يخص العدالة الاجتماعية وحيرة المساعي الايتيقية الباحثة على البدائل.



*محاولة مأخوذة من الإنترنت بتصرف





مراجعة الموضوع

محسن الشعابي الخميس 22 أكتوبر 2009 - 9:30



وثيقة من إعداد الأستاذ: محسن الشّعابي

الموضوع : الزوج المفهومي



يقوم هذا النوع من المواضيع على إقامة علاقة بين مفهومين أو معنيين، وان بدا هذا النوع غير متداول كثيرا ؛ لنأخذ مثالا على ذلك: الجمال والحقيقة، أو السعادة والرفاه، المساواة والإنصاف، العمل والسعادة، التواصل والكونية...

- إنّ هذا الشّكل من المواضيع يطرح مشكلا مفترضا لكنه غير محدد.

- يحيل الموضوع إلى سياقات متعددة.

- كلية المفهوم واختزاله لمعاني كثيرة.

- إنّ الترابط العضوي بين المفهومين هو الذي يشكل المشكل الذي وجب معالجته.

- نلاحظ أنّ مقارنة المفهومين تكشف عن بعد أساسي يتصل بالمعيش ويكتسب أهمية في مجالات متعددة للتفكير.

- إنّ المطلوب معرفة أي علاقة يمكن تأسيسها بين هذا المفهم وذاك.

- وجب إعداد تخطيط يتسم بحركية التفكير من خلال أشكلة العلاقة والتركيز عليها.

- لا يوجد معنى معطى للموضوع وإنما يتعلق الأمر بمقارنة بين مفهومين أومواجهة.

- إنّ المشكل الفلسفي يكمن في استشكال العلاقة بين المفهومين.

- إنّ البحث يهدف أساسا إلى كشف أو بلورة مختلف التداخلات الممكنة للعلاقة المقترحة وبالتالي تحديد طبيعة العلاقة ومضمونها الحقيقي وبالأخص تحديد مختلف الصيغ التي تكوّن الإشكالية.

كيف نعالج الموضوع؟

إنّ أحسن طريقة لمعالجة الموضوع في مقاربة أولية هي طرح سؤال: ماهي الدواعي التي تقود إلى إقامة علاقة بين هذين المعنيين؟ ثم ما الذي يدفع إلى مواجهة هذين المفهومين؟

يكفي أن نجيب عن هذا السؤال بالإستعانة بوجهتي النظر المختلفتين ولكن المتكاملتين.

ما الذي يجعل التقابل، التقارب، الواجهة بين المفهومين أمر لازم؟

أو في أي إطار لا يمكن للمفهومين أن يحددا أو يعرفا إلا في علاقة متبادلة بينهما؟

هل العلاقة المقترحة بينهما تغطي علاقة واقعية موجودة في مجال الممارسة؟ هل هذه العلاقة بناءة؟

في أي سياق؟ تحت أي أسباب؟ من أجل أي أهداف يحق لنا أن نقيم علاقة؟ هل في سياق تاريخي أو ثقافي أو أنتروبولوجي ما تطرح العلاقة؟

1 لمَ نواجه بين معنين؟ وهل هذه المواجهة لامفر منها؟

2 هل التقارب المقترح بين الموضوعين يحيل إلى علاقة واقعية.

3 في أي سياق وتحت أي أسباب ومن أجل أي هدف؟



المضامين الممكنة للعلاقة:

مقارنة منطقية: تقاطع، تخارج، تضمن...

علاقة قائمة على التناظر، تناسب: مختلفان لكن لهما نفس البناء.

علاقة ذات بعد واقعي.

الضرورة التبادلية: يتبادل المفهومان المواقع: السبب يتحول إلى نتيجة والعكس.

توجد تقنيتان لبناء علاقة بين المفهومين:

1- التساؤل حول المبرر من وراء العلاقة: مثال: هل يوجد في هذا المعنى ما يحتمل علاقة ما بالمعنى الآخر؟ هل في هذا المعنى ما يتطلب حضور المعنى الآخر؟

2- تنويع مجالات التطبيق أو العلاقة بين المفهومين: معالجة العلاقة بين المفهومين في ميدان معين ثم في ميدان آخر مع التساؤل: هل يحمل معنى معين في كل ميدان وما طبيعة العلاقة؟ تطابق، تفاعل، تجاور، اختلاف...

العمل التحضيري:

1- التساؤل عن دواعي إقامة علاقة بين مفهومين: ما الذي يحملنا على مواجهة مفهومين؟

2- النظر في أوجه العلاقة الممكنة بين المفهومين: تنافر، تقاطع، مماثلة، اشتقاقية، تبادل، تلازم...

3- رصد المجالات التي تتعين داخلها هذه العلاقة لجعلها علاقة ذات دلالة.

4- تعيين مرجعيات ممكنة لمعالجة الموضوع.

اقتراح تخطيط:

مقدمة: تمهيد: دواعي إقامة علاقة بين المفهومين.

طرح المشكل: ماهي طبيعة العلاقة بين المفهومين؟ هل تقوم على هذا الشكل أم على شكل آخر؟( تقليب أوجه العلاقة)، ما هي فضاءات التفكير التي تتنزل فيها؟ ما هي المسارات الواقعية التي تجسد ذلك؟ وما الهدف المنشود من وراء دراسة هذه العلاقة؟

الجوهر: التحليل

-لحظة أولى: تحديد أولي للمفهومين بما يفضي إلى الشّروع في تناول العلاقة.

- لحظة ثانية: تقليب أوجه العلاقة وتمعينها: مثال علاقة تقارب ثم علاقة تباعد أو العكس، إقصاء أو تضايف ...( نلاحظ أن الموضوع هو الذي يفرض نوعية المقاربة)

- لحظة ثالثة: تنزيل العلاقة ضمن حقل إشكالي وسياقات فلسفية أنتروبولوجية إبستيمولوجية...

- يمكن تخيّر علاقة بعينها ثم تحديد الرّهان من وراء دراسة العلاقة.

ملاحظة: لا وجود لنقاش في مثل هذا النوع من المواضيع.

ملاحظة: يمكن تخير معنى وسيط أو مفهوم ثالث يتجاوز السابقين .















الموضوع: العمل والعدالة.*

العمل التحضيري

1- المفهمة

* العمل: ممارسة إنسانية يجتمع فيها الفكر والحركة من أجل تحويل الطبيعة أو الأشياء إلى حاجات إنسانية. يمكن كذلك أن يكون في مجال فكري إنتاجا هادفا للأفكار وهو في كل الحالات يمارس اجتماعيا في علاقة بالآخرين فيتنزل قيميا، أخلاقيا وسياسيا ويتنزل ميتافيزيقا في علاقة بالماهية والاعتبار ومعنى الوجود.

* العدالة: مطلب يطرح في مجال علاقة الفرد بغيره وتفيد العدالة (Justice فرنسية، من اللاتينية Justitia، منJustus "Just" عدل، إنصاف) مفهوم يقتضي ضمناً معاملة منصفة، أخلاقية ونزيهة مع كل الناس. وفي معناه الأكثر عمومية، يعني انسجام الأفراد مع ما يستحقونه فعلياً أو هم جديرون به، أو في معنى ما هم مؤهلون له (المفهوم اللاتيني الكلاسيكي لـ unicuique suum). فالعدالة مفهوم أساسي على نحو خاص في معظم أنظمة "القانون"، ويصنف إلى حد كبير مع القيم والتقاليد الاجتماعية المؤسَّسة والمعتبرة. ومن منظور البراغماتية، العدالة هي المسمى للنتيجة العادلة. وفي إطار العمل تحيل العدالة إلى ما ينتظره العامل من تكافئ بين جهده وأجره من إنصاف وبينه وبين زملائه وأرباب العمل من مساواة.

تتنزل العدالة إذا في إطار القيم الأخلاقية والسياسية لتواجه قيما أخرى مثل الاستغلال والاستبداد والتي هي بدورها متأثرة بمعايير قيمية أخرى تهيمن على التوجهات الاجتماعية مثل النجاعة والمردودية والتكالب على الربح.

الصيغة:

زوج مفهومي في علاقة جدلية تحظر فيه العدالة في إطار ما يحف بالعمل من قيم ونتائج ويواجه العمل قيم أخرى وظروفا تحيد به عن معالمه الإنسانية فيحتاج وعيا قيميا ملازما لإنقاذ اعتبار الإنسان وحفظ حقوقه .

كشف علاقات التواصل والتنافر بين المفهومين بما يعمق الوعي بالقضايا الإنسانية التي تحف بعلاقتهما نحو بلورة موقف إنساني كوني يعيد تمثل ظروف العمل وفق القيم السامية للعدالة .

التمهيد:

يمكن الانطلاق من الإشارة إلى تعاظم القلق الإنساني المعاصر حول ظروف العمل وما يحيط بها من استغلال وتراجع لاعتبار العامل مما يستدعي مراجعة مفاهيم أساسية مرتبطة بالعمل أساسها مفهوم العدالة

طرح الاشكال:

أي قيمة للعدالة في واقع العمل؟ والى مدى يمكن لايتيقا العدالة مواجهة واقع العمل؟



الجوهر:

مدخل مفاهيمي ينزل العمل كممارسة تحيط بها دائما ظروف اجتماعية اقتصادية وتقنية وسياسية تحدد وضعيتها وتفرض عليها نظامية ما تحدد العلاقة بين جهد العامل والأجر وعلاقات العمل والمردودية. وتنزيل العدالة كمطلب يريد به الإنسان تفعيل قيم فرعية مثل الإنصاف والمساواة بحثا على ما يحفظ حقوق العامل واعتباره وتكافئ جهده وكفاءته وأجره.

المستوى الأول:

كشف العلاقة المتأزمة بين العمال وأرباب العمل من جهة والظروف الاقتصادية والسياسية العامة للمجتمع من جهة أخرى والتي أثارت قلق الإنسان في العمل تجاه قيمة العدالة المفقودة وذلك ببيان :

1- أن العامل يعاني من عدم تكافئ بين جهده وأجره نظرا لتكالب أرباب العمل على الربح دون إنصاف العمال وهذا ما نكتشفه في مظاهر مختلفة للاستغلال والاضطهاد وسلب الحقوق وبالتالي غياب العدالة كمطلب إنساني يتطلع إليه العمال بحثا عن حقوقهم في الأجر وحفظا لاعتبارهم الإنساني المسلوب.

2- إن الظروف الاقتصادية والسياسية العامة تمثل عقلنة نظامية للاستغلال والاضطهاد تدفع خاصة في الأنظمة الرأسمالية أو اقتصاد السوق إلى سيادة قيم المردودية والنجاعة دون اعتبار للعدالة الاجتماعية وحقوق العمال ولابد من الانتباه إلى العلاقة الوثيقة بين الاستغلال المباشر الذي يمارسه أرباب العمل و هذه التوجهات الاجتماعية.

المستوى الثاني:

1- الانتقال إلى كشف الوعي بمشكل العدالة كمطلب إنساني مباشر يتطلع إليه العمال وكقضية كونية لابد أن يطرحها الفكر في توجهاته النقدية للظروف الاجتماعية حيث الاستلاب والاغتراب لقيم العدالة في قيم النجاعة والمردودية خاصة وأن الحل الاشتراكي قد وقع هو الآخر في بيروقراطية قد استعادت الطبقية في سيطرة رجال الدولة .

2- تنزيل هذه القضية تنزيلا ايتيقيا في المساعي التأسيسية الإنسانية نحو التكامل والتكافل والتساوي بين أفراد المجتمع دون ميز عنصري على أساس الجنس أو اللون أو المرتبة الاجتماعية وضد الجشع والنهم وهضم حقوق العمال نحو التحرر من المفاهيم النظامية المغتربة في الأنظمة الاستغلالية والتفكير خارجها في ما يجب أن يكون عليه الإنسان اعتبارا وماهية.

خاتمة:

يمكن الانتهاء إلى عمق الأزمة القائمة في المجتمعات المعاصرة الرأسمالية والاشتراكية في ما يخص العدالة الاجتماعية وحيرة المساعي الايتيقية الباحثة على البدائل.



*محاولة مأخوذة من الإنترنت بتصرف