الحوارية أفقـا للتفكيـر
محمد الحيرش*
-I-
لا ترجع الأفكار الواردة في هذه المقالة إلى زاوية محددة من زوايا النظر التي تجعل من قضايا الحوار موضوعا للمقاربة والاشتغال. فالحوار ممارسة تتعدد المقاربات التي تتولاه بالبحث والدراسة، وتتفاوت بشأنه الخلفيات النظرية والفلسفية المؤطرة لأبعاده ومستلزماته. لذا، فما يعنينا بالتحديد فيما يلي من فقرات، لا يعود إلى الحوار بما هو موضوع لواحدة من المقاربات الفلسفية أو المنطقية أو التداولية الخ، وإنما يعود إلى التفكير فيه من جهة كونه "دعوى" يدافع عنها من يرون في وجوب اعتماده، بين الذات والآخر أو بين مختلف المجموعات الثقافية والحضارية، ضرورة للتساكن والتعايش[1].
ومن جملة ما يميز هذه الدعوى انطلاقها من اعتبار الحوار حلا يفضي بالمتحاورِين إلى تجاوز أسباب الخلاف، ومظاهر الصدام المفترض وجودها بينهم. فهي دعوى تأتي المرافعة عنها في سياق مضاد لدعوى أخرى تتصف بانغلاقها على الذات، واحتمائها بهوية شديدة الحساسية تجاه الآخر، وتجاه أفعاله وأحكامه التي تنعت في الغالب بالتسلط والاستعلاء.
وعلى الرغم من أن الواقع الذي توجد عليه مختلف تجليات العلاقة بالآخر لا يبعث تلقائيا على ما يسمح بالحوار ويشجع عليه، فإن من يعتبرون أنفسهم دعاته يظلون غاية في التشبث بمثله القادرة على درء الصراعات وتجاوزها. وبذلك لا يمثل تنامي العنف، في نظر هؤلاء الدعاة، ولا تفاقم مظاهر الإقصاء والعنصرية، ولا بروز نزوعات جديدة للهيمنة على الشعوب، سوى بواعث على الحوار، وعوائق يتعين الاستعانة به على تذليلها وتجنبها. فالحوار عندهم يمثل أقوم سبيل إلى بناء طوبى (utopie) كونية جديدة تنعم فيها كل من المجتمعات والثقافات والأديان بعلاقات من التآلف والتفاهم.
لهذا، ليس غريبا أن لا يكترث دعاة الحوار ولا يبالون حين يدحض الواقع دعواهم، وحين لا يحتمل خطابهم أيَّ قدر من الفاعلية والإنجازية. ذلك لأن الحوار عندهم هو أساسا "عقيدة" قبل أن يكون ممارسة وسلوكا؛ ومن ثم، فقيمته لا تكمن في انطباقه وتحققه في الواقع، بل تكمن في مرجعية مجردة من المثل والأخلاقيات التي تضبطه وتؤسسه. فلا سبيل، إذن، إلى قياس نجاعة الحوار بحدود تصريفه في الممارسة، وبالعوائق التي تعترض مجرياته، ولكن بما يكون به منظومة من المبادئ المتعالية على الواقع. إذ كلما كان المتحاورون متطابقين مع هذه المنظومة ومنضبطين لمعاييرها المجردة، امتد بينهم الحوار وجلب المكاسب المرجوة منه. وكلما انحرفوا عن ذلك، اختلَّت بينهم العلاقة، واتسعت مسافة الفرقة والتنابذ، دون أن يكون لذلك عند أولئك الدعاة أي تأثير على تلك المنظومة، لسموها وتعاليها.
-II-
وليس من شك أن الاعتقاد في الحوار بهذا المنزع الأخلاقي وبهذه الخلفية المعيارية المجردة يُغيِّب أبعادا جوهرية واستلزامات عديدة تفيد أن الحوار ليس منظومة متعالية من المبادئ والمثل التي ننشد التطابق معها خلال ممارساتنا الحوارية. فمن ينطلق في تجربة حوارية ما من المراهنة على تأمين صيغة من التطابق مع مرجعية سابقة على مجريات انعقاد الحوار، لن يكون حقا منتجا لفعالية حوارية منفتح جريانُها على الاحتمالات غير المحسوبة، وعلى قبول الاختلاف والتعايش معها. بل سيكون مشاركا في "طقس" منغلق على شعائره، ولا يروم إلا إعادة إنتاج حقائقه الجاهزة. إن الحوار لا يتحقق في تجربة تواصلية محددة على نحو يمكن أن يخضع فيه لمنطق من الحقائق يوجد خارج تحققه، ويمثل له أساسا مرجعيا لن ينزاح عنه. إنه فعالية لا "تنضبط" إلا لسيرورة حدوثها في واقع تواصلي تقوم فيه بين الذوات المتحاورة علاقات حيوية من التفاعل والتذاوت intersubjectivité))[2]. وهو بهذا يتنافى مع كل توجه يقضي باختزاله في نسق مغلق من المبادئ الناجزة، ومع كل قصدية مسبقة تروم كبحه وتأطيره في غاية من الغايات المرسومة سلفا. إن الحوار لا يحيل على أي ضرب من ضروب التطابق والاختزال، سواء تعلق الأمر بالذوات المتحاورة في علاقتها ببعضها، أم تعلق بالحوار نفسه في علاقته بمرجعية من المرجعيات القائمة. فلا وجود فيه لمرجعية سابقة على جريانه يسعى المتحاورون إلى الإحالة المطابقة عليها؛ بل هناك فعالية حوارية تجري بين كائنات واقعية (غير مجردة) لها وجود زماني ومكاني، وعبر اندراجها المحايث في هذه الفعالية، ومن داخل سيرورة تحققها تنشئ مرجعيتها الحوارية الخاصة، مما يفضي بكل واقعة حوارية تنعقد في الزمان والمكان إلى بناء مرجعية لصيقة بها ومختلفة عن المرجعيات اللصيقة بالوقائع والتجارب الحوارية الأخرى. وبذلك لا يمكن أن نتحدث عن مرجعية مثالية وقارة تمثل المآل المنشود لمختلف الممارسات الحوارية، فمآلات الحوار مآلات متفاوتة ومتباينة تبعا لتفاوت الشروط والاعتبارات التي تستحكم في المتحاورين، وتبعا لتباين مقاصدهم وتنوعها. كما لا يمكننا أن نتحدث عن الحوار بالمعنى الذي تظل فيه الذوات المتحاورة مشدودة إلى التطابق مع ذاتيتها، فالتوسل بحوار مزعوم من أجل أن تبقى الذوات متحصنة في تطابقها وانغلاقها لا يولد، في نهاية المطاف، إلا أشكالا من إرادة السيطرة المُسَوِّغة للصدام والمواجهة بكافة تجلياتهما المادية والرمزية.
إن الحوار تفاعل وانفتاح تمعن فيه الأطراف الإصغاء إلى بعضها إصغاء لا مجال فيه لأي شكل من إرادة الاحتواء والسيطرة، احتواء طرف لآخر والسيطرة عليه. إنه تعرف متواصل على الذات وعلى الآخر في استرسال تفاعلهما، وتقويض لكل نزوع يقضي بتوحيد الذوات في ذات واحدة، أو بتذويب وعي كل منهما في وعي الآخر. ففي الحوار لا تروم ذات من الذوات الحلول في أخرى، ولا إقامة علاقة بها من التوحد والتماهي. كما لا تتحدد فيه للمتحاورين أدوار مرتبطة بطمس الاختلافات وقطع دابرها من أجل بناء "توافق" من التوافقات. انتهاء تجربة حوارية إلى توافق ما لا ينهض دليلا على اجتثات الاختلافات وقبرها، ليصير هذا التوافق كما لو كان مرادفا لأحادية رأي ذات من الذوات. فمن يتأمل حقيقة التوافق سيجده منبنيا على علاقة حوارية يشترك المتحاورون على نحو تفاعلي في نسجها وبسطها فيما بينهم. إنه حدث حواري لا يحيل على وحدة الذوات المتحاورة وتجانس آرائها، بل هو إحالة مضمرة على تعددها وتقاطبها[3] (polarité). وهو تعبير عن أن الاختلاف وعدم التجانس في الرأي هما واقعان تقبل بهما هذه الذوات وتتعايش معهما، لأنهما مدارا تفاعلها وتذاوتها. وبالطبع، فحين تنزع هذه الذوات إلى استئصال هذين البعدين (= الاختلاف وعدم التجانس) وتنحيتهما من كينونتها، فإنها تؤول إلى التطابق ولا تنتج إلا صيغا من المونولوجات monologues)) التي تناجي من خلالها ذاتيتها المتقوقعة على هويتها ويقينياتها.
وارتباطا بهذا، لا تعتبر علاقة كل ذات بأخرى علاقة حوارية دون الوعي بالمسافة الاختلافية القائمة بينهما. فعند انتفاء الوعي بهذه المسافة لا يغدو الآخر إلا مجرد "موضوع" خارجي لوعي الذات لنفسها، أي مجرد موضوع خارج تيقن الذات من هويتها وتطابقها. انتفاء الوعي، إذن، باختلاف الذوات على نحو سواء يفضي إلى إقصاء الآخر واستبعاد الحوار بما هو فعالية تذاوتية لا وجود فيها لذات منغلقة على نفسها، بل لذوات متعددة ومنفتحة على اختلافاتها. لذلك، لا توجد في الحوار ذات تعتقد في تملكها وعيَها تملكا ناجزا، فوعيها يتشكل عبر "مرآة" الآخر وعبر استحضاره بعدا حواريا مقيما في كينونة هذا الوعي. ومن ثم، لا يمكننا أن نتحدث عن الوعي بوصفه نشاطا ذاتيا مغلقا؛ لأن وعينا لا يتحدث إلينا بصوت voix)) وحيد مطابق لذاتيتنا، بل "يتحدث إلينا بصوتين مستقلين عن بعضهما ومتعارضين في قصودهما"[4]: أحدهما صوت الذات والثاني صوت الآخر الموجودان في علاقة متواصلة من الحوار والتفاعل. فحديث الذات إلى نفسها لا يعكس "اكتفاء ذاتيا" لهذه الذات بنفسها، كما لا يتحقق عبر قناة مونولوجية monologique)) ذات وجهة "حوارية" أحادية ومسكوكة. إنه يتخذ صيغة مناظرة صريحة ومفتوحة تدخل فيها الذات في حوار مع نفسها ومع الآخرين عن طريق اعتماد استراتيجيات تواصلية متعددة من قبيل: إثارة الأسئلة أو الإجابة عنها، وإبداء الموافقة على رأي أو الاعتراض عليه، والدفاع عن مشروعية قرار أو تفنيده دفاعا عن مشروعية قرار آخر، الخ[5]. فهذه الاستراتيجيات وغيرها هي ما يجعل من كل حديث داخلي للذات مع نفسها حديثا حواريا لا أثر فيه لأي مظهر من مظاهر اكتفاء الذات بنفسها؛ ذلك لأن الذات المكتفية بنفسها والمحتمية بتطابقها لا يمكن العثور عليها إلا حيث يسود المونولوج، ويهيمن الانغلاق المقترن بالإقصاء والكراهية. أما في الحوار، بما هو فعالية وحدث جارٍ (لا بما هو بنية مجردة ومنغلقة على مبادئها)، فلا وجود إلا للتذاوت، أي لذوات منفتحة على بعضها وتتفاعل فيما بينها وتتحاور دونما قابلية للمطابقة فيما بينها، أو لاختزال بعضها في البعض الآخر.
وهكذا، لا يمكن اعتبار الحوار "أداة" تسخرها ذات من الذوات لإملاء مواقفها وتقويماتها على الآخرين، وجعلهم مجرد معيدين لأصدائها ومقتنعين قسرا بصلاحياتها. فبمثل هذا التصور الأداتي للحوار تظل الذات سجينة وهم وعيها لنفسها على نحو مونولوجي، أي على نحو أحادي ومطابق. كما أن استحالة الحوار إلى أداة تصطنعها الذات، أو استحالته إلى وسيلة تلوذ إليها ضمن علاقة بالآخر خارجية وغير متكافئة، يُغَيِّب كون الحوار يقع في صميم تحديد الذات، وكونَه يقع في مدار كينونتها ومنبع هويتها. إن الحوار ليس بعدا موجودا خارج الوجود المحايث للذات، كما لو تعلق الأمر بواقع خارجي مستقل بنفسه تلجأ إليه الذوات للوفاء بحاجياتها وأغراضها التواصلية. الذات لا توجد إلا في الحوار، فهو "مسكنها" وفيه تقيم، وبذلك يمتنع في اللغة أن نهتدي إلى ذات مختزلة إلى ذاتها، أي إلى ذات تقع خارج اللغة وخارج الحوار. إننا لا نجد في اللغة إلا ذاتا تتكلم مع الآخرين وتتحاور معهم تحاورا يجعل من تقاطب الذوات وتفاعلها بعدين جوهريين لا يستقيم من دونهما حدث التواصل. ولنا في اللغات الإنسانية ما يشهد من داخل انتظامها اللساني على نزوعها الحواري. فالضمائر الشخصية ليست سوى أجلى تعبير عن هذا النزوع، لأنها أخص القرائن تعبيرا عن العلاقات الحوارية التي تقوم في لغة من اللغات بين الذاوت، ولأنها مما لا يمكن تصور خلو لغة معينة منها[6].
واللافت للانتباه في هذه الصيغ اللسانية المسماة ضمائر هو عدم قبولها التحديد نفسه الذي يصدق على عموم الدلائل signes)) الأخرى في اللغة، فهي لا تحيل ككل دليل لغوي"لا على مفهوم(concept) ولا على فرد individu))". ذلك أنه يستحيل أن يوجد، على سبيل المثال، مفهوم لضمير المتكلم (أنا ـ je) تندرج تحته مختلف الأنوات التي يستعملها المتكلمون في كل لحظة تخاطبية مثلما هو الأمر مع أي مفهوم لغوي آخر تندرج تحته جميع استعمالاته الفردية (مفهوم الشجرة مثلا…)[7]. فضمير المتكلم لا يحيل على فرد ولا على كيان خارجي، وإنما يحيل على اللحظة التي يكون المتكلم فيها بصدد الكلام، وهي لحظة "فعل التخاطب" التي يتوجه فيها إلى مخاطب تربطه به علاقة حوارية متبادلة. ولهذا، توجد الذات في اللغة مقترنة أشد ما يكون الاقتران بزمن محدد هو الزمن الذي تكون فيه منتجة للكلام، أي ما يتواضع عليه في المعرفة النحوية بزمن الحال (présent). ويكفي أن نتأمل تعريفات النحاة القدامى لعلاقة الذات المتكلمة بهذا الزمن لنجدها لا تقيم فصلا بينهما، لأنهما متلابسان. يقول أحد النحاة: "فعل الحال هو المتكون في حال خطاب المتكلم"[8]، وهو ما يفيد أن إدراك الذات المتكلمة لصيق بإدراك اللحظة الزمنية التي تنجز فيها خطابها، كما أن إدراك هذه اللحظة لصيق أيضا بوجود ذات متكلمة لا يمكن أن تتخذ تلك اللحظة دلالتَها وحيزَها التكويني إلا من خلالها.
إن مثل هذه الأوصاف اللسانية المرتبطة بتحديد الوضع الذي تتخذه الذاتية في اللغة يبرز، إلى حد بعيد، كيف تتمنع كل ذاتية على الاختزال، وكيف تتمرد على نوع من التحديدات الميتافيزيقية التي تَؤول بمقتضاها إلى موجود (étant) ساكن يعلو على الزمن، ولا يطابق إلا ذاته. فسواء في معرفة حديثة كاللسانيات أم في معرفة تقليدية كالنحو، لم تفلح الآلة الصورية في بناء صياغة تجريدية للذات بناء خالصا وخاليا من أي التباس بما يشهد من أبعاد على تجليها الزماني والحواري؛ بل تقر هذه الآلة باستحالة إدراك هذه الذات خارج تحققها في زمان ومكان محددين، وخارج ما يربطها بذوات أخرى.
وللإشارة، فإن ما سبق الإلماح إليه من الوجهة اللسانية يجد ترجمته الفلسفية في إطار ما يعرف اليوم بالانعطاف الهيرمينوطيقي (= التأويلي) (le tournant herméneutique) الذي لم يعد في ضوئه يُفكّر فلسفيا في الذات بما هي بنية مجردة أو هوية مغلقة؛ وإنما بما هي فعالية تتحقق في تجربة معيشة، وحدثانٌ في الزمن[9]. وتكمن أهمية هذا الانعطاف في كونه يمثل توجها نقديا لما آلت إليه ذاتية الحداثة من انغلاق وتطابق، ومن انفصال عن كل ما يمت بصلة إلى الحياة في مختلف تجلياتها المعيشة. ذلك أن الإدراك العقلاني المطابق للذات، كما رسخه فكر الحداثة، أضحى خاضعا للنقد، لا لكون تحديد الذات فيه بني على أساس خاطئ أو مخالف للحقيقة، بل لكونه جعل من هذه الحقيقة صورة قارة غير موصولة عراها بدينامية الحياة وجريانها.
ولعل السبيل النقدي إلى كسر هذه الصورة القارة التي حُشرت فيها ذاتية الحداثة، وكشفِ مآزقها هو العودة إلى الذات بروح يتجلى فيها العقل متفاعلا مع تجربة الحياة، خاصة وأن الفصل بينهما لم يفض بالحداثة إلا إلى مصير أضحى فيه العالم عبارة عن خطاطة خاضعة للتنظيم والتخطيط الجذريين، واختزلت بموجب ذلك "كل (تجربة) إنسانية، وكل خبرة فردية، وكل فرادة شخصية إلى لحظة تقاس كافة عناصرها وتُتوقع بالعد والإحصاء"[10].
ومن غير شك، فإن القول بالتفاعل بين تجربة العقل وتجربة الحياة يتخذ أوجها متعددة، فهو من جهة أولى تفاعل بين الخبرة بالحقيقة في مجالات العلوم الحقة، وبين الخبرة بها في مجالات العلوم الإنسانية. وبهذا يتم العدول هنا عما يجعل من إحدى هاتين الخبرتين معيارا للأخرى، أو أساسا تقيس عليه صلاحيتها على نحو ما تجلى ذلك في النزعة العلمية (scientisme) التي عاملت كل ما يصدر عن الإنسان من أنشطة وفعاليات معاملة العلم الطبيعي لأشيائه وموضوعاته. فهذا الوجه من التفاعل يراد منه التأكيد أن العلاقة بالحقيقة لا تتم عبر خبرة وحيدة ونموذجية تنسحب مقتضياتها النظرية ومعاييرها المنهجية على باقي الخبرات الأخرى، بل تتم عبر خبرات متنوعة لكل منها علائقها بالحقيقة، ووجهاتها المخصوصة إليها[11].
ومن جهة ثانية، وارتباطا بالوجه السابق، يفيد التفاعل بين العقل والحياة أن الحقيقة ليست فقط ما تمثله الخبرة بها في العلم الحق، وأن ما دونها ليس سوى مجرد "خيالات" أو "مجازات" تقف على هامش موضوعية هذه الحقيقة و"وحدانيتها". فبقدر ما للخبرة العلمية طرقُها الموصِلة إلى الحقيقة، بقدر ما للخبرة الجمالية والفنية (ومختلف الخبرات الإنسانية الأخرى) طرقها الموصلة أيضا إلى الحقيقة بدرجة لا تقل أهمية وموضوعية عن الحقيقة في الخبرة العلمية[12]...
أما من الجهة الثالثة، فيتخذ التفاعل المشار إليه وجها من "التحالف الجديد" بين الإنسان والطبيعة، بحيث لا تصير هذه الأخيرة موضوعا للسيطرة المفضية إلى الاستنزاف والتدمير من قبل الإنسان، بل فضاء للاستكشاف المعلي من قيمة الحياة[13]...
إثارة هذه الأوجه من التفاعل بين تجربتي العقل والحياة ليس الغرض منه في الفكر الفلسفي المتواضَع عليه اليوم بفكر ما بعد الحداثة (post-modernité) إلا البحث عن السبل التي تكون من خلالها علاقة الذات بالعالم وبالآخر علاقة أقل عنفا وأكثر اعتدالا. ولبلوغ علاقة بهذه الملامح، يكفي أن تعيش الذوات على نحو إنساني وجودَها الدنيوي (séculaire) في العالم، أي على نحو "يمكن للحياة أن تجري فيه ضمن آفاق أكثر حوارية وأقل عنفا ودوغمائية"[14].
-III-
يستخلص مما تقدم أن الحوار يدخل في صميم تحديد الذات، وفي صميم علاقتها بالآخر. ومهما قد يبدو على هذا الاستنتاج من بداهة، فإن ما يترتب عليه من أبعاد واستلزامات يتجاوز حدود حوارية الذات ليمتد إلى علاقتها بحوارية الوجود. فالعلاقة بهذا الوجود وبمختلف ما يتجلى فيه لا تتأتى بالنسبة إلى الذات إلا من خلال اللغة، أي من خلال الحوار؛ إذ إن كل ما يمكن أن يكون "ماثلا" أمام ذات معينة من ذوات أخرى أو من وقائع ونصوص لا تستقيم العلاقة به إلا عبر أفق من آفاق الحوار. فالعلاقة بنص من النصوص، مثلا، أوسع وأعقد من أن تختزل إلى علاقة ذات عارفة بموضوع مجرد. إنها علاقة ذات بأخرى يتمرد فيها النص على كونه مجرد كينونة "خرساء" لا تستطيع الكلام إلا بإخضاعها لإجراء "الاستنطاق". النص ذات ناطقة وقادرة لا فقط على التحدث عن نفسها، بل قادرة كذلك على أن تتكلم وتتحاور مع غيرها من الذوات، وعلى أن تسائلهم وتصوغ رؤاهم إلى أنفسهم وإلى الأشياء من حولهم.
النصوص، إذن، كائنات حوارية بامتياز، لذا لن نستغرب حقيقة لجوئها إلى ما يمكن اعتباره "استفزازا" بليغا عندما تلوذ إلى الصمت رافضة كل علاقة بها غير قائمة على الإصغاء والحوار المتبادل، ومستنكرة كل سلطة تقضي بـ"تشييئها" وإحكام السيطرة عليها. وهي بهذا الرفض والاستنكار تفهمنا أن الحوار الحق لن يتحقق إلا بالتجرد من مثل هذه النزوعات التسلطية، ولن يتأتى إلا بالتحرر من ترسباتها المعرفية والأخلاقية. فقلما نعثر على أولئك الذين يقصدون نصا بقراءة من القراءات وقد تحرروا من تلك النزوعات وأتاحوا لأنفسهم ترجمة قدر من الود والتواضع تجاه ما يقرؤون. لهذا، كلما استشعرت النصوص أن من يقصدها هو على غاية من الاطمئنان إلى هويته ويقينياته، وشديد الحرص على "عدم تواضعه، وعناده من أجل إرادة البقاء هو ذاته أمام ما يقرأ"[15]، أشاحت بوجهها عنه وتركته متماديا في غلوائه ومتقوقعا في انغلاقه.
وإذا كانت النصوص تفهمنا أن حقيقة الحوار لا ترتبط فعاليتها إلا بالانفتاح والتفاعل واستحالة التطابق، فذلك لأن "كل حوار حق يستلزم منا أن ننحني أمام الآخر، وأن نمنح وجهة نظره اعتبارا كافيا، وأن ننفذ إلى ذهنه لا لكي نفهم الفرد، وإنما لكي نفهم ما يقول"[16]. وبهذا المعنى يتحقق الحوار عبر ذوات متفاعلة ومنفتحة على بعضها بعيدا عن أي وجه من وجوه الاستعلاء المذعِن فيه بعضُها لمواقف البعض الآخر. فالحوار، كما سبق بيانه، ممارسة تذاوتية تفضي بالمتحاورين إلى بناء أشكال من التفاهم التي لن يكون فيها كل طرف إلا غير ما كان عليه عند انطلاق الحوار. إذ إن التفاهم أفق تفاعلي لا تنتظم فيه الذوات المتحاورة جنبا إلى جنب وعلى نحو خطي(linéaire) ومتساكن؛ وإنما هو لحظة دينامية من تحققات كل ذات على حدة. ذلك لأن الذوات لا تسعى فيه إلى تكرار أنفسها أو إملاء البعض منها لمواقفه واقتناعاته على البعض الآخر، واكتفاء هذا الآخر بتسجيل هذه المواقف والامتثال لها. ففي الحوار لا ننتهي فرادى أو جماعات إلى تفاهم فعال، إلا إذا اعتبرنا أن هذا التفاهم لا ينتسب إلى أي منا، وأنه بالأحرى يمثل أفقا جماعيا جديدا لتفاعلنا وحواريتنا.[17]
وفي أفق من هذا القبيل ليس من مكان، بالطبع، لأصل يمكن أن يمثل منطلقا للحوار أو مرجعية لانعقاده، ولا لمركز يمكن أن يتقاطع عنده المتحاورون ويرجعون إلى ما تمليه عليهم سلطه التقويمية في إسناد هذه القيمة أو تلك إلى مآلات حواراتهم. فمجال العلاقات الحوارية هو مجال لانتفاء أي نوع من المركزيات ذاتية كانت أم جماعية أم ثقافية، الخ. وعند استناد علاقة من العلاقات إلى مثل هذه المركزيات، فإن ذلك لن يقود إلى حوار متكافئ بين الأطراف، وإنما إلى ما يسوغ الهيمنة ويكرس التراتب. ولعل هذا ما يجعل من المنازع المرتكزة على ضرب من الأصوليات (العرقية أو الثقافية أو الدينية، الخ) تؤسس وجودها على استبعاد كل علاقة حوارية ممكنة بالآخر. فالآخر لا معنى له هنا إلا عندما يقلع عن اختلافه وغرابته، ويتحول إلى نسخة مطابقة لتلك المنازع، ومتماهية مع أنماط عيشها ووجودها. لذا لا ترى الأصوليات على اختلافها في الحوار مدخلا إلى الانفتاح على الآخرين وإدراكهم في تنوعهم واختلافهم، بل ترى فيه أداة لمجادلتهم ومساجلتهم. فبالمجادلة والسجال لا تتوخى علاقة بالآخر تقوم على التكافؤ والاعتراف المتبادل، وإنما علاقة أحادية الوجهة تختطها الذات الأصولية لاحتواء الآخر، وغصب آرائه وأفكاره. ومن ثم كانت المنازع الأصولية دوما منازع معادية للحوار، ولما يتصل به من تفاعل وانفتاح وتقويض للتطابق. وحيثما يمكن أن تسود واحدة من هذه المنازع لا يمكن العثور إلا على العنف بجميع تجلياته، وعلى إرادة الهيمنة والتسلط. لذلك، وفي ضوء ما سبق، لن تكون الحوارية إلا أفقا من العلاقات التي تتهاوى عند انبساطها بين المتحاورين مقومات كل نزعة أصولية داعية إلى الانغلاق على نفسها، ومعتقدة في الحقيقة المطلقة لأفكارها ووجودها.
-IV-
وهكذا نستطيع القول، في ختام هذا المقال، إن الإشكال الذي صغناه في البداية (الفقرة:1)، والقاضي باعتبار الحوار دعوى أخلاقية تلتزم بالدفاع عنها عينة من الخطابات في تصورها للعلاقة بالآخر، يظل من جهات متعددة إشكالا مجردا بعيدا عن حقيقة الحوار كما يجري في الواقع ويتحقق في الممارسة. فلقد بينا أن الحوار ليس منظومة متعالية من المعايير والأخلاقيات التي يحرص المتحاورون على أن تكون حواراتهم متطابقة معها بنحو من الأنحاء. الحوار أساسا فعالية ومماسة ينخرط فيها المتحاورون، وهي التي تفضي بهم مجرياتها إلى مآلات لا تعود نسبتها إلى أي منهم، لأنها مآلات يشتركون تفاعليا في بنائها والاهتداء إليها. إننا في الحوار لا نندرج في لحظة ساكنة نتوقف عندها لنحتفي فيها بتكرار أنفسنا واجترار يقينياتنا. إنه أصلا لحظة دينامية تتجدد فيها الذات وتتعرف على نفسها من خلال تفاعلها مع الآخرين. لذلك يبقى الحوار الحق أفقا وجوديا رحبا يندرج فيه المتحاورون ذواتا كانوا أم جماعات أم ثقافات، الخ، ويَنشدُّون فيه إلى بعضهم وإلى العالم بأواصر وعلاقات قوامها الاعتدال في مواجهة العنف، وقوامها الانفتاح في مواجهة الانغلاق، والحوارية في مواجهة الدوغمائية والأحادية.
________________________________________
* - كلية الآداب- تطوان.
[1]- تشكل اليوم الخطابات الداعية إلى الحوار ظاهرة متنامية تعقد لها الندوات والملتقيات وتنظم لها المؤتمرات على امتداد أرجاء الوطن العربي. والغالب على هذه الخطابات أنها موجهة بدافع التصدي للأطروحة القائلة بـ "صدام الحضارات"، مما يصبح معه الحوار بديلا دعويا ولفظة سائرة تستعمل دونما مراعاة لتعقيداتها واستلزاماتها المتعددة.
[2] - سبق لمؤلف هذا المقال أن تناول بالتحليل في سياق آخر مفهوم «التذاوت» من وجهة نظر لسانية وهيرمينوطيقية، انظر:
- محمد الحيرش (1997)، الذاتية والغيرية بين اللسانيات والهيرمينوطيقا، ضمن أعمال ندوة «خطاب الغيرية»، منشورات جامعة عبد المالك السعدي، تطوان.
[3] - عن تعدد الذوات وتقاطبها في الحوار يمكن مراجعة:
- Volochinov/ Bakhtine,1929, Marxisme et philosophie du langage, tr.fr., Minuit, 1976.
- E.Benveniste, 1958, De la subjectivité dans le langage, in Benveniste, Problèmes de linguistique générale, Cérès Editions, 1995.
[4]- Volochinov,1930, Structure de l’enoncé, p 294, in T.Todorov, le principe dialogique, Seuil, 1981.
[5] - فولوشينوف (1930)، ص 294-295.
[6] - بنفنست (1958)، ص 260.
[7] - بنفنست (1958)، ص260-261.
[8] - أبو القاسم الزجاجي، الإيضاح في علل النحو، تح. مازن المبارك، ص87، دار النفائس، 1986.
[9] - انظر:
- G.Vattimo, 1989, Ethique de l’interprétation, tr.fr., La découverte, 1991.
[10] - فاتيمو (1989)، ص113.
[11]- H.G.Gadamer, 1960, Vérité et méthode, tr.fr., Seuil, 1976.
[12] - غادامر (1960).
[13] - انظر
- Prigogine/Stengers, 1979, la nouvelle alliance, Gallimard.
[14] - فاتيمو (1989)، ص113.
[15] - M.Blanchot, (1955), L’espace littéraire, p 236, Gallimard.
[16] - G.Warnke, (1987), Gadamer : herméneutique, tradition et raison, p 131, tr.fr., Editions Universitaires, 1991.
[17] - وارنك (1987)، ص131.
عن مجلة فكر ونقد