هذا العمل التّأليفي هو تلخيصٌ لِمَا وردَ في بعض الوثائق المنهجيّة والحلقات التكوينيّة في مناطق مُختلفة من بلادنا التّونسيّة ..رأيتُ أنّه من المُفيد لأبنائنا التّلاميذ الإطّلاع عليها علّها تُذلّلُ بعض الصّعوبات الّتي يُمكن أن تعترضهم عند إقبالهم على محور :شعر الحماسة في القرنين الثّالث والرّابع للهجرة ..
وقد تجدون فيه مَا يُمكنُ أن يُقدركُم على تمثّل أهداف المحور الفنيّة والمضمونيّة ، ويُنمّي فيكم مَلكة القراءة والنّقد بِما يُفسحُ المجالَ لإبداعكم وإبداء الرّأي في شعرٍ بقِيَت صورُه الفنيّة ومعانيه البلاغيّة تلامسُ الشّعورَ فينا رغم عصيانها وتمنّعها ..ناهيك عن قِيَمه الخالدة الّتي تعطف القلوب وتَأسرها وكأنّ بقاءَنا رهينُ بقائِها...
للأمانة العلميّة أذكرُ أنّني اِعتمدتُ في هذا العملِ الوثائق التّالية :
* المركز الوطني لتكوين المُكوّنين(ديسمبر 2008)
وثيقة المُكوّن ،إعداد الأساتذة : مجيد الشّارني وفتحي فارس والحبيب بلحاج سالم.
* المركز الجهوي للتّكوين المستمرّ بأريانة .
محاضرة ل:د/مبروك المنّاعي (جامعة منوبة) بعنوان "إنشائيّة الحماسة في الشّعر العربي " تنشيط الأستاذ عبد السّلام الرّاجحي ( متفقّد مادة العربيّة)
* المركز الجهوي للتكوين المستمرّ بجندوبة .
شرح القصيدة "الحماسيّة" في الباكالوريا.
إعداد : د/سلوى العبّاسي بن علي (متفقّدة مادّة العربيّة تونس 1)
الأستاذ : نزار عسيلي المستوى :الرّابعة آدابًا دراسة تأليفيّة لمحور : شعر الحماسة في القرنين الثّالث والرّابع للهجرة (أبو تمّام/المتنبّي/ابن هانئ) معهد منزل الحبيب 2014/2015
1) مفهوم الحماسة :
في البرامج الرّسميّة : -أ الحماسةُ ضربٌ من ضروب الشّعر بها يكتسبُ هذا الشّعرُ هويّةً من خلال المركّب الإضافيّ (شعر الحماسة) ويتنزّلُ في التّاريخ ( في القرنين الثّالث والرّابع للهجرة) وهي إلى ذلك جملةٌ من المعاني يتغنّى بها ذلك الشّعر (البطولة ،القوّة، الفتوّة، الثّقة بالنّفس ...) ومنظومةٌ من القيم هي مدارات العمل الشّعريّ الحماسيّ ، وخصائص فنيّة تميّزه من حيث الإيقاع والأسلوب والمعجم والصّورة ، ومدوّنة شعريّة هي دواوين ثلاثة (أبو تمّام ، المتنبّي ، اِبن هانئ ).
في اللّغة : -ب
ينتظمُ المعنى المعجمي للمادّة [ح،م،س] داخل لفيفٍ من المدلولات اللّغويّة المُتشابهة الّتي تُؤلّف فيما بينها حقلا دلاليّا مُشترَكا ، تكادُ مُفرداتُه تتعالق حول جامع معنويّ مُوحّد هو مفهوم (التّشدّد في كلّ شيء) فهي تتقاطعُ دلاليّا في معنى الشّدّة حسّا و تجريدًا وتفترق بما تُضفيه الأبنية من معانٍ .
تحُفّ بهذا المفهوم دلالات مُتنوّعة متقاربة في آن واحد هي :
الشّجاعة والمنع والمحاربة والصّلابة والإحتدام والبليّة أو الدّاهية وقوّة التّحمّل والصّبر على الشّدائد و المُغالاة والحميم أو الإشتعال ...ويُؤكّد ُ ابنُ الأثير في " الكامل في التّاريخ" معنى الشدّة بقوله :" أصل الحماسة الشدّة ". وعن هذا الأصل تنشأُ معانٍ دقيقةٌ تتراوح بين الغضب والحميّة والشّجاعة ، بل إنّ الشّجاعةَ تُصبح المعنى المباشر لكلمة حماسة .وهذا المعنى يتعالق ومعان أخرى إطارها الحرب بما تقتضيه من خصال قتاليّة في المستويين المادّي والوجداني.
ويذهب الزّمخشري في " أساس البلاغة " إلى معنى في الحماسة قريبٍ من العلميّة : " وهو رجل من الحُمس وهم قريش لتحمّسهم في دينهم وهو تصلّبهم .." ويضيفُ في نفس الكتاب معنى مجازيّا بقوله :" وَقعوا في هِنْد الأحامس إذا وقعوا في شدّة وبليّة ...ولقي فلان هِندَ الأحامس إذا مات ،ومعنى إضافتهم إلى الأحامس إضافتهم إلى شجعانهم أو إلى جنس الشّجعان ".
في التّأليف : -ج
تُطلقُ كلمةُ " حماسة " على ضرب من ضروب التّأليف هو كُتب المجاميع والإختيارات الشّعريّة ، وأصبح هذا اللّون من التّأليف من سُنن الكتابة فتعدّدت كتب الحماسة واشتهر بعضُها وظلّ كثير منها مغمورا ..وتُعدّ حماسة أبي تمّام أشهر الحماسات بلا منازع.
في الشّعر : -د
تتردّدُ عبارة حماسة في مُختلف كتب التّراث من لغة وأدب وكلام وأصول وتاريخ دون حاجة إلى تحديدها أو تفسيرها ، ولذلك تتواتر عبارات من قبيل : بيت حماسة / أبيات الحماسة / شاعر الحماسة... وهذا يُؤكّد أنّ القدامى بمختلف مشاغلهم لم يبدُ لهم معنى الحماسة مُبهما ملتبسا.
إنّ المنزلة الشّعريّة للحماسة محيّرةٌ مُربكةٌ اِنطلاقا من بداهة حضورها في الشّعر ولآختلاف في تصنيفها وضبط مقوّمات وجودها الشّعريّ، وقد أطلِقَتْ على الحماسة تسميات كثيرة ، منها ماهو عام يعبّرُ عن استعمالات حذرة " الحماسة باب من أبواب الشّعر " أي فنّ شعريّ بمعنى فرع .
ولعلّه من فائض القول إنّ "الحماسة" غرض من أغراض الشّعر العربيّ، أو جنسا يُضاهي الجنس الملحميّ عند الغربيّين ( "الإلياذة" و" الأوديسة" للشّاعر اليوناني "هوميروس").
وقد يكون أفضل مدخل لطرق باب الحماسة هو المدخل المعنوي المتّصل بالحماسة موضوعا شعريّا . وهذا ما يُثيرُ قضيّة العلاقة بين الحماسة والأغراض التّقليديّة في الشّعر العربيّ القديم. والغرضُ هو الغايةُ القصوى الّتي من أجلها تنتظمُ القصيدة أو هدفها الأقصى ، وهو هدف ماديّ في الغالب ، وهذا ممّا لا يستقيمُ مع الحماسة الّتي تخدمُ أغراض المدح والفخر والرّثاء و تُؤسّسُ لقيم منشودة .فما الفرق بين الغرض والمعنى ؟
المعنى الشّعريّ هو الفكرة الّتي تتكرّرُ في عدد كبير من النّصوص الّتي كلّما تكرّرت تنوّعت ، فالتّوارد . الحماسة والحرب معنى شعريّ يتكرّرُ بصورٍ مُختلفةها وإن بشكل خفيف تُصياغعلى معنى الحماسة تواردٌ تاريخيّ ،ظلالُ المعنى تختفي تارةً وتظهرُ طورًا ، لكن نواته الصّلبة وتتباين من شاعر إلى آخر ومن ظرف فتتنوّعُ شبكةُ المعاني المُتّصلة بالحماسةتظلّ راسخة ، تاريخيّ إلى آخر ، لكن يُمكن أن نعتبر معنيين فيها هما : الجودُ والبأس ، هما من أكثر المعاني رسوخا وتواترًا. فالحماسةُ شعرٌ يُصوّر نماذج الممدوحين الّذين وقع تَمييزهم بهاتين الخصلتين الّتين هما جُمّاعُ المعاني المدحيّة ومكمن تلازمهما في وعي كبار الشّعراء.
المعاني المدحيّة بمختلف أغراضها (الفخر/ المدح/ الرّثاء) إطارٌ شعريّ شديد الملاءمة لبروز المعنى الحماسي في القصيدة العربيّة القديمة . بدأَت الحماسةُ متّصلة بالغزوِ مدار عيش العرب في مجتمع القبيلة والبداوة، وآتّخذت مع العهود الإسلاميّة خاصّة في صراع العرب مع الأمم الأخرى كالرّوم والفرس أبعادًا قوميّة، عَقديّة مرادفة للذّود عن الذّات ووجودها الحضاريّ التّاريخيّ أي هي نابعة من كلّ صنوف تنظيم الصّفوف في اتّجاه الخارج لتكتسي في الأخير بُعدًا أنطولوجيّا (وجوديّا) شبه مُوحّد وهو الدّفاع عن وجود الذّات ضدّ كلّ أشكال الإستعمار والإبادة والفناء، أَلاَ يُبرّرُ ذلك على نحو من الأنحاء مدى أهمّية هذا الشّعر من حيثُ حجم المدوّنة ومن حيثُ أهمّيتها وقيمة محتوياتها وجودتها الفنيّة، وقدرتها على الإستمرار كمشرو ع لا يزال قائم الذّات؟ هو مشروع الذّود عن الحمى وعن تلك الذّات ،ليلتحق شعرُ الحماسة في العصر الحديث بأطروحات الإلتزام والنّضال المبثوثة في مدوّنة الشّعر الوطني الحديث ويغدو تجلّيا من أهمّ تجلّياته . ليكتسب شعرُ الحماسة لِما له من قُدرة قيمة حضاريّة أخلاقيّة تنضافُ إليها قيمتُه الجماليّة الإنشائيّة وقائع شعريّة (تلحيم المعارك البطولة من وقائع تاريخيّة إلى على تحويل
بنشاط الصّراع في أشكاله الحربيّة والأحداث) وهو بذلك ينشطُ . والسّياسيّة المُختلفة
2)بنية الحماسة :
إنّ القول بوجود إنشائيّة خاصّة بالحماسة يُضاهي أغراضيّةَ المدح والفخر والرّثاء والهجاء الّتي وُلدت في محضنها الحماسةُ وتطوّرت من شاعر إلى آخر قولٌ لم يُبتّ فيه بعد ، إذ أنّه ليس من الهيّن إثبات بنية مخصوصة للحماسة، ذلك أنّها ليست غرضًا خاصّا ولا معنى معزولاً عن القول الشّعريّ وعن الأغراض الشّعريّة المألوفة ، بل ربّما يكون الشّعرُ العربيّ كلّه حماسة ، وتكون كلّ أنظمته الخاصّة والعامّة داخلة في باب تركيبها وبنيتها من جهة، وهي من جهة ثانية خاضعة للغرض الّذي يحتضنها وليست فوقه أو منفلتة من إكراهاته .. لذلك ليس من البديهيّ الإطمئنان إلى بنية مخصوصة للحماسة خارج بنية الشّعر المألوفة..ولكن يمكن اِعتبار بعض الخصائص أدوات فنيّة مساعدة على فهم تركيب الحماسة داخل أغراض الشّعر ومنها :
بنية الحرب في شعر الحماسة : -أ
الحماسةُ في شعر أبي تمّام والمتنبّي وابن هانئ تأخذُ مكانها بين الأغراض الشّعريّة البارزة وتقتحمُ المدحَ والفخرَ والرّثاء اِقتحامًا لتُمجّد الأبطالَ ومآثرهم ، وتصفُ الحربَ وما يتخلّلها من مفاجآت وما يعقُبُها من اِنتصارات ويمكنُ تأكيد حضور الحرب في حماساتهم من خلال :
●غلبة المعاجم الحربيّة على غيرها من المعاجم في القصيدة الحماسيّة :
□ يكتسبُ معجم الحرب عند أبي تمّام وابن هانئ والمتنبّي أبعادًا جديدةً فالسّيف يحضر مثلاً عند : أبي تمّام ليُحدّد موقفه من ثنائيّة (السّيف /الكتب) في قصيدته الشّهيرة في مدح المعتصم ، ليتحوّل السّيف من وسيلة قتل وتقتيل إلى أداة لبناء المعنى ، وتأسيس الكيان ، والجواب الشّافي =
أَجَبْتَهُ مُعلنا بالسّيف مُنْصلتا وَلَو أَجَبْتَ بغَيرِ السّيف لم تتُجِب.
والسّيف عند المتنبّي يتّخذ ُعدّة أشكال أَسْمَاهَا عندما يقارن الشّاعر بين السّلاح وسيف الدّولة فيقول =
وإنّ الُّذي سَمّى عليّا لَمُنصِفٌ وإنّ الّذي سمّاه سيفًا لَظالِمُه
وَمَا كلُّ سيفٍ يقطَعُ الهَامَ حَدُّهُ وتقطَعُ لَزْباتِ الزّمانِ مكارِمُه.
ويجعلُ بعد تلك المقارنة السّيفَ عُدّةً لا حلية :
إنّ السّلاح جميعُ النّاس تحملُه وليس كلَّ ذواتِ الْمِخْلَبِ السَّبُع.
وقد اِستطاع اِبن هانئ الأندلسي أن يحوّل أشياء الحرب إلى دلالات قدرةٍ منحها الله للمعزّ لدين الله الفاطمي فلم يعُد حديثه عن ( سيف ) مُتاحٍ بل عن صارمٍ سلّهُ القديرُ العليم في وجه كلّ أعداء الإمام :
إنّ الّتي رام الدّمستق حربها لله فيها صارم مسلول .
□ أَنْسَنَةُ معاجم الحرب (التّشخيص) وجعلها تنهض بأدوار البطولة فهي عند أبي تمّام ، تدخل في صورة تخييليّة كبرى ، تُسهمُ في المدح كما تُسهمُ في الرّثاء ، يقول في تأبين محمّد الطّوسي :
فتى مات بين الضّرب والطّعن ميتةً تقوم مقامَ النّصرِ إنْ فاته النّصرُ
القنا السّمرُ.منَ الضّربِ واعتَلّت عليه مضربُ سيفهِوما مات حتّى مات
ويقولُ أبو الطيّب في مدح سيف الدّولة مُعتمدا المُشابهة بين آلة الحرب والممدوح، وبين حركته وطبيعة تلك الآلات :
لأجفانِلكُنّا كا سُللن لمَّا و مَضاؤُهُ سَميُّ سُيُوفِهلَولاَ
أَمِن احتقارٍ ذاكَ أمْ نِسيان؟ حتّى ما درَى بهنَّخاضَ الحِمَامَ
□ ثراء المعاجم الحربيّة حتّى أنّنا نجدُ في شعرهم من : *أسماء الحرب :
يوم النّزال ، يوم الطّعان ، المعركة ، المعمعة ، الهيجاء ، الوقيعة ،الكريهة ،المرتع، النقع ...
* آلاتها ومعدّاتها :
السّيف ،الرّمح ، القناة ، البيض ، المدجّج ، الصّدار ، الدّرع ،النّصل ،العوالي ، الصّارم ...
* أفعالها :
الزّهو ،الحماس ، الأوار ،الفروسيّة ، البطش، الصّولة ، الفتكة ،الطّعن ، المحرق ،الزّجر، المقلق ...
○ تحاصرُ تلك المعاجمُ القصيدةَ الحماسيّة عند أبي تمّام والمتنبّي وابن هانئ من كلّ الجهات حتّى تُشعرك بأنّ الحماسة عندهم لا تعدو حماسةً حربيّة ، لا تختلفُ كثيرًا عمّا كتبه السّابقون لهم في باب أيّام العرب.
○ رغم جُهد الشّعراء في إخراج تلك المعاجم مخرجا مخصوصا بقيت الحكاية في عمقها حكاية قتل وتقتيل.. أو هي صراع من أجل البقاء (العرب أم الرّوم)..
●التّشريع للحرب :
يشترك الشّعراء الثّلاثةُ في إدراج تلك الحروب في سياق تاريخيّ معلوم وهو سياق الصّراع بين العرب والرّوم أساسًا ، ممّا حوّل القصائد الحماسيّة من إطارها العصبيّ (الشّعر الّذي خلّد حروب القبائل في الجاهليّة )إلى مجالها الدّيني .
يقولُ المتنبّي مادحا سيف الدّولة :
ولست مليكًا هازمًا لنظيره ولكنّك التّوحيد للشّرك هازم.
ويقول أبو تمّام في فتح عموريّة :
أبقيتَ جدَّ بني الإسلام في صَعد والمشركين ودارالشّرك في صبب.
ويُوافقهما ابنُ هانئ في هذا التّوجّه فيقول :
نصَرَ الإلهُ على يديك عباده واللهُ ينصرُ من يشاء ويخذلُ
لن يستفيقَ الرّومُ من سكراتهم إنّ الّذي شربوا رحيق سلسل.
●التّركيز على أدقّ الجزئيّات في وصف المواقع :
لئن لم يكُن همُّ الشّعراء الثّلاثة التَّأريخ ، فإنّهم قدّموا صورًا دقيقة على كثير من المواقع، فقارئ تلك القصائد الحماسيّة يتعرّفون في إطار فنيّ على حروب العرب في ذلك الزّمن ، ويظهرُ الجهدُ جليّا في صناعة المآثر والمواقع (انظر : خشعوا لصولتك لأبي تمّام والحدث الحمراء للمتنبّي ولله صارم مسلول لابن هانئ )
●الإلحاح على وصف الجيوش حسًّا ومعنًى :
اِشتركَ الشّعراء الثّلاثة في وصف الجيوش عُدّةً وعددًا واستطاعوا من خلال التّركيز على قوّة جيش الرّوم على خلق المفاجأة (مفاجأة الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة ).
يقول ابن هانئ :
والنّصرُ ليس يبين حقّ بيانه إلاّ إذا لقي الكثير قليل .
ويُشهدُنا المتنبّي على صورة مُفزعة للعدوّ :
أتوك يجرّون الحديد كأنّهم سروا بجياد ما لهم قوائم
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه وفي أذن الجوزاء منه زمام
تجمّع فيه كلّ لِسن وأمّة فما تفهم الحدّاث إلاّ التّراجم .
●توجيه الحماسة نحو وصف آثار الحروب الماديّة والنّفسيّة :
النّتيجةُ الحتميّة لتلك الحروب اِنتصارات بالجملة سواء في معارك الثّغور (أبوسعيد الثّغري) أو في معارك اِسترجاع الأراضي المسلوبة (سيف الدّولة استرجع الحدث الحمراء)أو في معارك الفتح مثل فتح عموريّة ، مع تأكيد على بهجة المُنتصر، يقول أبو تمّام في مدح المُعتصم :
آلت أمورُ الشّرك شرّ مآل وأقرّ بعد تخمّط وصيال
..أمسى بك الإسلام بدرًا بعدما محقَت بشاشته محاق هلال.
في هذا الباب يُمكنُ القول إنّ قصائد الحماسة تعكس قوّة المعارك الدّائرة الّتى كانت في معظمها شاهدا على قوّة الصّراع ..نقلت صليل السّيوف وجلبة الخيول والجيوش المهزومة وصوّرت بالكلمة الغُبار الّذي تُحدثُه آلاف الجنود المتلاحمة والمُتصادمة ويُمكن إجمال خطّة المعركة عند هؤلاء الشّعراء الثّلاثة في تصوير قوّة العدوّ الّتي لا تُقهر، وتضخيم المعركة ، وتفخيم المحارب ،سهولة الإنتصار في الختام لتحطيم قوّة العدوّ نهائيّا ..
بنيةالحرب عند أبي تمّام والمتنبّي و ابن هانئ هي مواصلة لِما دأب عليه الشّعراء منذُ الجاهليّة من تخليد لحروبهم وأسلحتهم وأنسابهم وفضائلهم وكان من الطّبيعيّ أن يظلّ هذا" الغرض" قائمًا في العصر الإسلامي ، ففي صدر الإسلام فاضت قرائحُ شعراء الرّسول بحماسيّات تصوّرُ غزواته وتُشيد بانتصاراته ، وفي العصر العبّاسي وما يليه من عصور ، يظلّ الصّراع مُشتدًّا بين العرب وخصومهم من الرّوم والصّليبييّن والمغول ، وتُثمرُ تلك الحروب فيضًا من شعر الحماسة ...
(الخصائص الفنيّة) بنية الشّعر : -ب
إنّ القصائد الحماسيّة من النّواحي التركيبيّة دالّةٌ على مدى تحكّم الشّاعر منهم في ترتيبات الكلام تَحَكُّمَ الممدوح في ترتيب عناصر المعارك ،فهندسةُ القصيدةِ من هندسةِ المعركة الحربيّة ،وخاصّة في قدرة الشّاعر على فَلْقِ الصّور واللّوحات من جوفِ المعارك ، إذ تجاوزت الحماسيّةُ المعنى إلى المبنى لتكتُب لنا أجمل القصائد ، ويُمكن أن نلخّص ذلك الجمالَ في النّقاط التّالية :
● في الصّورة الشّعريّة :
□ تنويع الصّور الشّعريّة من خلال :
ان المتقبّلين :لتقريبها من أذه التّشبيهك باعتماد الصّور الشعريّة القائمة على وذل :التّقريب *
خشعوا لصولتك الّتي عندهم كالموت يأتي ليس فيه عار (أبو تمّام)
* التّمثيل : وذلك من خلال اِنتزاع الصّورة من متعدّد وتركيبها لتحمل دلالات كثيرة عند التّقبّل (التّشبيه التمثيلي) كقول المتنبّي :
م فوق الأُحيدب كلّه كما نثرت فوق العروس الدّراهم .نثرتَه
*التّخييل : وذلك من خلال بناء الصّور على جملة من العلاقات الجديدة الّتي يحتاج القارئ جهدا لفهم الإستعارات أو الكنايات المقصودة ، من ذلك قول أبي تمّام :
لولا جلاد أبي سعيد لم يزل للثّغر صدرٌ ما عليه صدار ( الصّدار كناية عن الشّرف)
أو في قول المتنبي :
وقفت وما في الموت شكّ لواقف كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم.
أو في قول ابن هانئ :
ويسحب أذيال الخلافة رادعًا به المسك من نشر الهدى يتضوّع .
إنّ براعة هذه الصّور الشّعريّة وانزياحها عن مألوف التّصوير الشّعريّ هي الّتي ساهمت في إضفاء جماليّة على معاني البطولة الحربيّة .
*التّهويل في الصّورة أو المشهد : وهو سمة تكاد تكون ملازمة لشعرهم ، خُذْ لك مثلاً قصيدة "يوم أرشق " لأبي تمّام .
*اِستفراغ الصّورة(أي محاولة محاصرتها من جوانبها المُختلفة):وهي سمة عامّة يمكنُ أن نتمثّل لها بقصيدة ابن هانئ "الجواري المُنشآت".
*الوصف الخاطف: هي تقنية اِعتمدها هؤلاء الشّعراء إذا أرادوا تحقير أعداء ممدوحيهم ،فمنويل مثلا في رائيّة أبي تمّام الّتي مدح فيها الثّغري لم يُذكر صراحة سوى في بيتين يتيمين . الصّورةُ والتّصوير من وسائل الشّاعر العربيّ قديمًا وحديثا في نَظمه لكن نجدها في الحماسة كثيفةً لتُحقّق وظائف جديدة منها :عطف القلوب على القيم ، وتحميسها لِمَلْءِ الكيانِ ودَرْءِ العُدوان . فشعراء الحماسة يضطلعون بمهمّة نبيلة في ضوء تراجع الخلافة الإسلاميّة،وآنقسامها ووُقوعها نهشًا للطّامعين من الرّوم وغيرهم..
● في الإيقاع :
من أهمّ الخصائص الفنّيّة اللاّفتة في شعر الحماسة الإيقاع وقد نوّع الشّعراء الثّلاثةُ من أدوات الإيقاع حتّى يتمكّنوا من شدّ اِنتباه المُتلقّي ولكي يَسهل على هذا المتقبّل حفظُ شعر الحماسة فيروج بين النّاس ويتغنّوا به ومن أهمّ أدوات الإيقاع :
* البحورالشّعريّة : ليست البحورُ دالّةً في ذاتها على إيقاع مُعيّن بل تكتسب قيمتَها من خلال المقام الحماسي الّذي تردُ فيه. فآختيارُ شعراء الحماسة بحورا مثل الطّويل والكامل والوافر..يُفسّر وعيهم بأهمّية ذلك الإيقاع الخارجي في نقل الفعل الحماسي لأنّها بحورٌ توفّر للشّاعر إيقاعا قادرا على اِستيعاب النّفس الشّعري ..كما اِستعمل الشّعراء بحورا يتسارع فيها الإيقاع وهو ما يُوفّر فرصة ثانية للشّاعر لبناء ما سمّاه النّقّاد بالأنساق السّريعة في بناء الحماسة ..
* التّصريع :وهو سُنّة شعريّة قديمة دأب عليها الشّعراء في فواتح قصائدهم ...وهو عند شعرائنا الثّلاثة هو فاتحة لجلب الإنتباه إلى بُؤرة من النصّ مقصودة يكثّف عندها الشّاعر الإيقاع أو ما يُسمّى موسيقى النصّ (أو موسيقى الحشو)وتكون بقيّة الأبيات تفجيرا أو تصريفا لتلك البؤرة الإيقاعيّة الكثيفة ..
* الإيقاعات الدّاخليّة :
□ إيقاع المُجانسة والطّباق والمقابلة وهي اِختيارات تجعل القصيدة حُبلى إيقاعًا وتُحوّلها من الوصف إلى الغنائيّة والغاية من ذلك اِختراق خيال المتلقّي وامتلاك وجدانه ...يقول ابن هانئ في مدح جعفر (مكثّفا طاقة الجناس النّاقص ):
كبدر الدّجى كالشّمس كالضّحى كصرف الرّدى كاللّيث كالغيث كالبحر.
أو كقول أبي تمّام :
بيض الصّفائح لا سود الصّحائف في مُتونهنّ جلاء الشكّ والرّيب .
□ الإيقاع بالتوازي التّركيبي كما في قول المتنبّي في مدح سيف الدّولة :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم .
□ الإيقاع بردّ الصّدور على الأعجاز: يقول أبوهلال العسكري في كتاب الصّناعتين (الشّعر والنّثر) : " إنّ لردِّ الصّدور على الأعجاز موقعا جليلا وإنّ له في المنظوم خاصّة محلاّ خطيرًا "
يقول المتنبّي :
وكم من رجال بلا أرض لكثرتهم تركت جمعهم أرضا بلا رجل .
أو قول ابن هانئ :
فلم أدرِ إذ سلّمت كيف أشيّع ولم أدرِ إذ شيّعت كيف أودّع .
□ إيقاع الهندسة الصّوتيّة: وذلك من خلال تكرار الحروف المُتقاربة في المخارج والحيّزات والمُعاودة في التّراكيب والصّيغ فيصبح البيتُ حكاية صوتيّة أو صرفيّة أو تركيبيّة تُلخّص مآثر البطل وإنجازاته فينتشر صداها بين النّاس ويتغنّوا بها مثل هذه البنية الصّوتيّة في بيت المتنبّي :
بناها والقنا يقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم .
أو هذا الترصيع في بيت أبي تمّام :
تدبير معتصم، بالله منتقم لله، مرتقب في الله، مرتغب . هذه الظواهر الإيقاعيّة ليست خاصّة بشعر الحماسة لكنّ كثافتها تلفتُ الإنتباه إليها في اللّغة،وذلك من خلال :
○ حُسن توظيف الأبنية اللّغويّة :مثل :
* توظيف تراكيب النّفي والإثبات .
* توظيف التّوازي التّركيبي والتّشقيق اللّغوي .
* توظيف الحكمة .
○ حُسن تخيّر المعاجم المُناسبة للحماسة : مثل :
* معجم الحرب.
* معاجم الحياة والموت .
* معاجم الطّبيعة .
○ حُسن تخيّر الأصوات المُعبّرة عن معاني الحماسة :
قال اِبنُ الأثير عن وصف المُتنبّي لمعارك سيف الدّولة :" إنّه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أقوى من أبطالها وأمضى من نصالها حتّى قامت أقواله للسّامع محلّ أفعالها .. فكأنّ الفريقين قد تقابلا والسّلاحين قد تواصلا .." (بناها والقنا تقرع القنا وموج البحر حولها متلاطم / المتنبّي).
المهمّ أنّ الحماسةَ لم تكن معنًى فحسب بل تجربة كتابة خلّدت تلك القصائد وذكرت الممدوحين والمرثيّين على حدّ سواء..
بنية الكون الشّعري : -ج
المقصودُ بالكون الشّعري هو أنّ شعر الحماسة يعبّرُ عن موقف الشّعراء في الحياة وهو نُشدان الكمال لأنّهم لا يكتبون لمُجرّد الكتابة بل يُؤسّسون لذوات وتاريخ ...ونلاحظ ذلك في :
●في المقابلة بين العجز والقدرة ، ممّا يجعلُ صورةَ الإنسان عند شعرائنا الثّلاثة مُتردّدةً بين موجودٍ ومنشودٍ ( صورة الدّمستق مثلا وصورة سيف الدّولة عند المتنبّي ) و(صورة بابك أو منويل وصورة المعتصم أو الثّغري )..
● في الجُهد والجهاد لآكتساب صفة الكمال ، إذْ ليْس الكمالُ عندهم معطى ثابتا فطريّا بل هو منزلة في الكون تحتاج إلى مزيد من البذل والعطاء يفرض على صاحبه السّير بالفعل إلى منتهاه وإن كان المنتهى الموت..
● في القدرة على خلق المعجزات ، لأنّ هؤلاء الأبطال أشخاص خارقون ، يقفون في جفن الرّدى ولا يموتون ..
خُذْ مثلا قول أبي تمّام :
فآسلمْ أميرَ المؤمنين لأمّة أبدَلتَها الإمراعَ بالإمحال .
أو قول المتنبّي :
ويستكبرون الدّهرَ والدّهر دونه ويستعظمون الموتَ والموتُ خادمه.
ويقتضي الكمالُ توفّرَ مجموعة من الخصال والصّفات الأخلاقيّة الّتي أحسن هؤلاء الشّعراء اِنتقاءها من المنظومة الجاهليّة أو الإسلاميّة كالفتوّة ، والعدل ، والكرم ، والعقل ، والحِلم والعفّة ...
ولذلك ولّدَ اِنفعالُ المتنبّي بسيف الدّولة اِنفعالاً ببطولة خارقة ، وتجاوز ذلك الإنفعالُ الممدوحَ إلى المثال الّذي يروي غليلَ الشّاعر من البطولة والمجد والقيم العربيّة ..وانفعالُ ابن هانئ بممدوحه المعزّ ولّدَ اِنفعالاً بالمذهب ... وانفعالُ أبي تمّام كان في الحقيقة انفعالا بشعره الّذي أعجزَ الكثيرَ من النقّاد ..
فالحماسةُ عندهم ليست للحرب فقط بل للسّلم أيضا ..ولو حاولنا النّظر إليها بآعتبارها " غرضا شعريّا مُضمّنا" لألفينا هذا الغرض أكبر من أن ينحصر في الحرب ومعاني البطولة، لأنّه معنى منتشرفي المدح والهجاء والرّثاء وفي الغزل... ولعلّ اللاّزمة الشّعريّة الّتي لاتكادُ تفارقُ الحماسة هي الحكمة،فهي بأساليبها القائمة على الإيجاز والتّناسق بين الأخذ بالعِلَلِ والتّصريح بالنّتائج وآعتماد المنطق لإصابة المعنى وحسن التّشبيه وجودة الكناية وتأنّق العبارة ،تَجعلُ الحملَ على التّصديق ونشر المعنى يُعاضدُ إيقاعَ الوهم بالتّخييل ، فتتظافرُ حيلُ العقل مع حيل اللّغة وبلاغتها ، فيقعُ التّرقّي من حكمة البيت أو شطره أو بعض أجزائه إلى حكمة القصيدة ككلّ( السّيف أصدق إنباء من الكتب...) فالحكمة هي تجلّيا للقصيدة كحقيقة ثابتة تبدأ بالعقل لتنفتحَ على العاطفة وهذا يخدم خطّة المدح بإثبات قيمة العقل لدى الممدوح والإشادة بحكمة الفعل وعظمة الإنجاز ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
مرحبا