الثلاثاء، 19 مايو 2009

مدخل لباب الانساني بين الوحدة والكثرة

ما الإنسان؟
ليس سؤال الإنسان عن ذاته بالسؤال المستحدث أو بالسؤال المصطنع.
ليس بالسؤال المصطنع من جهة كونه يتعلق بخصوصية الوضع الإنساني، باعتباره وضع يرتبط بتلازمه مع خاصية الوعي الذي يرتبط بهذا الوجود ،وعي يستشعر من خلاله الإنسان حاجته للمعرفة: معرفة ذاته، وموضع هذه الذات في الوجود.إن السؤال الذي يقود إلى هذا الوعي لا يعبر مطلقا عن ترف فكري (ذلك ما تشهد به على الأقل تاريخية الوضع الإنساني إذ حضر سؤال الإنسان عن ذاته ووضعه منذ بدايات تشكل الوعي الإنساني وفي لحظة، مازال فيها، خاضع بشكل مطلق لمحيطه الطبيعي، يصارع من اجل حفظ بقائه و ضمن الشروط الدنيا لحفظ البقاء ) وإنما ، يعبر طرح هذا السؤال، عن حاجة ملحة لتحصيل اليقين والاطمئنان معرفيا ووجوديا؛ إطمئنان لا يستقيم وجود الإنسان دون تحققه. إن تجربتنا الشخصية، ذاتها، تثبت لنا إن مناسبات طرح السؤال غالبا ما اقترنت بأشد تجاربنا مأساوية وحدة. ذلك أن الؤال عن معنى وجودنا وغايته، وعن مصيرنا، وعن القضاء والقدر، وعن الموت غالبا ما يتشكل ضمن لحظات قلق وجودية ترتبط بالقلق والحيرة والخوف، كنتيجة للشعور بالمرارة والعجز والاحساس بالفشل. ( أنظر قصيدة الشاعر إليا أبو ماضي " لست أدري" مثلا) فيكون طرح هذه الاسئلة ومحاولة البحث عنها، في بعض وجوه، بمثابة البحث عن استعادة حب الحياة ذاتها، وارادة الاستمرار فيها.
وسؤال الإنسان عن ذاته ليس بالسؤال المستحدث ،كذلك،من جهة كونه سؤال ينغرس في عمق الوعي البشري وهو ما يشهد عليه مضمون الفكر الأسطوري؛أول أشكال الوعي البشري وأقدمها. بل لعل الوعي الإنساني، ذاته، ما كان انبجاسه غير استجابة وتقاطع مع هذا السؤال ؛ذلك ما يشهد عليه، صراحة ، مضمون هذه الأساطير( أنظر أسطورة قلقامش:الوضعية الاستكشافية الثانية في الكتاب المدرسي).لا يتعلق الأمر بالأسطورة وحدها فالحال ذاته بالنسبة لمختلف أشكال الوعي البشري الأخرى من فن ودين وفلسفة وعلم؛ إذ يضل محور الاهتمام فيها جميعا الإنسان، رغم فروق أوجه الاهتمام وكيفية تناول السؤال وطبيعة الجواب المفترض له.
أمام هذا الإقرار بكثافة حضور سؤال ما الإنسان داخل كل أشكال الوعي البشري، وعلى امتداد كامل تاريخ هذا الوعي، يفترض بنا أن نتساءل عن وجاهة وخصوصية المقاربة الفلسفية لهذا السؤال؟ إن إقرارنا منذ البداية بكون سؤال الإنسان عن نفسه ليس بالسؤال المستحدث أو المصطنع في تأكيد بتعلق السؤال بكامل التجربة الإنسانية في مختلف أشكالها وتجلياتها يفترض أن السؤال ليس سؤالا فلسفيا خاصا، تتميز به الفلسفة وتحتكره، غير أن ما يجب الانتباه إليه كذلك أن هذا الاشتراك، ما بين الفلسفة ومختلف أشكال الوعي البشري، لا يفيد مطلقا تماثل حيثيات طرح السؤال ما بين الفلسفة وبقية أشكال الوعي الأخرى.
يتعلق الأمر باختلافات، قد تتفاوت درجتها ما بين الفلسفة وأحد أشكال الوعي الأخرى، لكنها تضل في كل الحالات اختلافات أساسية ترتبط بخصوصية الخطاب الفلسفي ذاته.

يمكن أن نرد هذا الاختلاف الأساسي، إلى خصوصية، وطبيعة الخطاب الفلسفي ذاته. تتجلى هذه الخصوصية في مستويات متعددة، غير أنها تدور جميعا حول مفهوم الكلي. إن ما يكسب الفلسفة خصوصيتها كنمط من التفكير، ليس في مسألة الإنسان فقط ولكن فيما يعود على مجمل خطابها وقضاياها، إنما تشكل هذا الخطاب حول مفهوم الكلي.
يسعفنا النظر في تاريخية نشأة الفلسفة بفهم أولي لدلالة الكلي الذي تبحث عنه الفلسفة. لقد اقترنت هذه النشأة بحدثين/ تحوليين خطيرين. يعود التحول الأول على التحول في تفسير "الطبيعة" تحولا اقترن من التحرر من التفسيرات الأسطورية والسحرية التي تعيد ما يحدث في الطبيعة إلى تفسيرات عجائيبية ترتبط متعالية عن الطبيعة ومفارقة لها، فما يحدث في الطبيعة هو نتاج لأحداث وكائنات خارقة بما هي كائنات أسطورية.
في مقابل هذا النمط من التفكير العجائبي والأسطوري عمد " الفلاسفة الأوائل" إلى محاولة تفسير الطبيعة تفسيرا "موضوعيا من خلال إرجاع ما يحدث داخل الطبيعة إلى الطبيعة ذاتها. تجلى هذا الإرجاع في البحث عن مبدأ كلي يهب المعرفة موضوعية ويقينا يتجلى في الوحدة والثبات. على هذا الأساس أعاد " طاليس" ما يحدث في الطبيعة إلى مبدأ أول هو الماء ، فيكون الماء كعنصر أول ما يضفي الوحدة على الكثرة والثبات على التغير اللذان لا يمكن تعقلهما .
يتحدد الكلي بداية إذن بما هو مطلب الوحدة والثبات بما يجعل من المعرفة والتعقل ممكنين. يحيلنا هذا التحديد الأولى لمفهوم الكلي على مجال اشتغال أول للفلسفة عامة، ولمطلب الكلي خاصة، الذي يتحدد في مجال المعرفة فيكون الكلي هو مجال المعرفة واليقين.
الحدث الثاني الذي ارتبط بنشأة الفلسفة يتعلق بالإطار التاريخي والجغرافي لهذه النشأة. لقد ظهرت الفلسفة في أثينا في إطار من الحراك والمناخ الاجتماعي والسياسي المتميز بروح الحرية ( حرية محدودة وجزئية بما هي خاصة بالمواطنين الذكور الأحرار لا الغير) ذلك أن المعرفة كما الشأن العام هي مجال لحوار علني وعمومي مكانه "الأغورا" والساحة العامة وليس كهوف السحرة. الكوني بذلك يتعلق بكونية القيم الإنسانية كونية تجعل من الحوار والنقاش العلني أساسا للعلاقات الإنسانية، بما يؤسس لامكانات العيش المشترك.
على هذا الأساس يمكن تحديد دلالة الكوني في علاقة بسؤال ما الانسان في مستويين:
مستوى المعرفة اذ يتعلق الكوني بتحصيل الحقيقة واليقين باعتبار الانسان هو مصدر الحقيقة ولكن كذلك موضوعها بحيث تحل محبة الحكمة كشأن انساني محل الحكمة ويحل العقل محل الاسطورة.بذلك يرتبط مطلب الكلي /الكوني بمسعى الفلسفة لكشف المغالطات وتجاوزها ، سواء كانت هذه المغالطات منطقية أو أيديولوجية.
مستوى الايتيقا حيث يتحدد الكلي بما هو أساس للعيش المشترك القائم على الحوار والنقاش العلني. فيرتبط الكلي برهان الفلسفة على تكريس قيم الخير والعدل والحوار والتسامح بما يكفل تحقق العيش المشترك.
اعتبارا لهذا المطلب يكون مطلب الكلي /الكوني هو عنوان الالتزام الفلسفي ورهانه فضحا وتشنيعا بكل الوضعيات التي لا يكون فيها الإنسان إنسانا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا