الأربعاء، 27 مايو 2009

مدخل لباب الإنساني بين الوحدة والكثرة

ما الإنسان؟
ليس سؤال الإنسان عن ذاته بالسؤال المستحدث أو بالسؤال المصطنع.
ليس بالسؤال المصطنع من جهة كونه يتعلق بخصوصية الوضع الإنساني، باعتباره وضع يرتبط بتلازمه مع خاصية الوعي الذي يرتبط بهذا الوجود ،وعي يستشعر من خلاله الإنسان حاجته للمعرفة: معرفة ذاته، وموضع هذه الذات في الوجود. إن السؤال الذي يقود إلى هذا الوعي لا يعبر مطلقا عن ترف فكري (ذلك ما تشهد به على الأقل تاريخية الوضع الإنساني إذ حضر سؤال الإنسان عن ذاته ووضعه منذ بدايات تشكل الوعي الإنساني وفي لحظة، مازال فيها، خاضع بشكل مطلق لمحيطه الطبيعي، يصارع من اجل حفظ بقائه و ضمن الشروط الدنيا لحفظ البقاء ) وإنما ، يعبر طرح هذا السؤال، عن حاجة ملحة لتحصيل اليقين والاطمئنان معرفيا ووجوديا؛ اطمئنان لا يستقيم وجود الإنسان دون تحققه. إن تجربتنا الشخصية، ذاتها، تثبت لنا إن مناسبات طرح السؤال غالبا ما اقترنت بأشد تجاربنا مأساوية وحدة. ذلك أن السؤال عن معنى وجودنا وغايته، وعن مصيرنا، وعن القضاء والقدر، وعن الموت غالبا ما يتشكل ضمن لحظات قلق وجودية ترتبط بالقلق والحيرة والخوف، كنتيجة للشعور بالمرارة والعجز والإحساس بالفشل. ( أنظر قصيدة الشاعر إليا أبو ماضي " لست أدري" مثلا) فيكون طرح هذه الأسئلة ومحاولة البحث عنها، في بعض وجوه، بمثابة البحث عن استعادة حب الحياة ذاتها، وإرادة الاستمرار فيها.
وسؤال الإنسان عن ذاته ليس بالسؤال المستحدث ،كذلك،من جهة كونه سؤال ينغرس في عمق الوعي البشري وهو ما يشهد عليه مضمون الفكر الأسطوري؛أول أشكال الوعي البشري وأقدمها. بل لعل الوعي الإنساني، ذاته، ما كان انبجاسه غير استجابة وتقاطع مع هذا السؤال ؛ذلك ما يشهد عليه، صراحة ، مضمون هذه الأساطير( أنظر أسطورة قلقامش:الوضعية الاستكشافية الثانية في الكتاب المدرسي).لا يتعلق الأمر بالأسطورة وحدها فالحال ذاته بالنسبة لمختلف أشكال الوعي البشري الأخرى من فن ودين وفلسفة وعلم؛ إذ يضل محور الاهتمام فيها جميعا الإنسان، رغم فروق أوجه الاهتمام وكيفية تناول السؤال وطبيعة الجواب المفترض له.
أمام هذا الإقرار بكثافة حضور سؤال ما الإنسان داخل كل أشكال الوعي البشري، وعلى امتداد كامل تاريخ هذا الوعي، يفترض بنا أن نتساءل عن وجاهة وخصوصية المقاربة الفلسفية لهذا السؤال؟ إن إقرارنا منذ البداية بكون سؤال الإنسان عن نفسه ليس بالسؤال المستحدث أو المصطنع في تأكيد بتعلق السؤال بكامل التجربة الإنسانية في مختلف أشكالها وتجلياتها، يفترض أن السؤال ليس سؤالا فلسفيا خالصا، تتميز به الفلسفة وتحتكره، غير أن ما يجب الانتباه إليه كذلك أن هذا الاشتراك ما بين الفلسفة ومختلف أشكال الوعي البشري، لا يفيد مطلقا تماثل حيثيات طرح السؤال ما بين الفلسفة وبقية أشكال الوعي الأخرى.
يتعلق الأمر باختلافات، قد تتفاوت درجتها ما بين الفلسفة وأحد أشكال الوعي كل على حدة، كما معها جميعا، لكنها تضل في كل الحالات اختلافات أساسية ترتبط بخصوصية الخطاب الفلسفي ذاته.

يمكن أن نرد هذا الاختلاف الأساسي، إلى خصوصية، وطبيعة الخطاب الفلسفي ذاته. تتجلى هذه الخصوصية في مستويات متعددة، غير أنها تدور جميعا حول مفهوم الكلي. إن ما يكسب الفلسفة خصوصيتها كنمط من التفكير، ليس في مسألة الإنسان فقط، ولكن فيما يعود على مجمل خطابها وقضاياها، إنما تشكل هذا الخطاب حول مفهوم الكلي؛ الكلي كمبدأ للتعقل والكلي كمطلب والكلي كرهان.
ضمن أية حدود يتشكل الكلي كمبدأ ومطلب ورهان في إطار التفكير في الإنسان؟

يتعلق الأمر بداية بتجاوز البداهة الخادعة التي تجعلنا نستشعر وضوح وبداهة الجواب عن السؤال. بداهة زائفة وخادعة من جهة ارتباطها بالتجربة الحسية والذاتية المباشرة، إذ تنتهي هذه التجربة إلى إثبات وجودنا وتحديد لحقيقة هذا الوجود من خلال ما نستشعره من وحدة وتواصل ومباشرة حضور " الأنا" في خضم تجربة اليومي ، وهو إحساس بحضور وبداهة هذه الأنا يجد إثباته في تماسك هذا الحضور رغم تغير حالات الأنا النفسية والجسدية وأشكال ارتباطها باليومي.
تبرز المغالطة التي يقوم عليها هذا التحديد في إرجاع السؤال عن الإنسان إلى مستوى وجود حسي وجزئي ومباشر ، يرتبط بتجربة وخصوصية تتقوم بما هو انفعالي وذاتي، من جهة أولى؛ ذلك إن كان هذا الرد وإن كان يقول لنا شيئا عن " زيد " أو عمر" بغض النظر عن قيمة ما يقوله ، فان زيد أو عمر لا يمكن أن يدللا على ما يمكن أن يكون عليه الإنسان بإطلاق، الذي هو مطلبنا.
أما من جهة ثانية فالمغالطة الثانية التي يقوم عليها مثل هذا التحديد فتتعلق بالتناقضات التي تحكم هذا الموقف ذاته. إن النظر إلى الإنسان بما هو ذات متعينة في فرد بعينه ، مع افتراض وحدة وثبات أناه، وفي نفس الوقت ربط هذا الوجود بتجربة اليومي مع ما تفترضه من تقاطعات وعلاقات وثيقة بالعالم والآخر والجسد، يغفل عن تحديد مقومات هذه الأنا من جهة علاقتها بهذه المحددات التي يرتبط وجود الفرد بها.
يتعين الإحراج في نهاية الأمر، إن عمدنا إلى إعادة صياغة الاعتراضات السابقة صياغة فلسفية، بالتساؤل عن حقيقة هذه الأنا بين حدي " الوحدة والكثرة"؛ وحدة تتجلى فيما أستشعره من وحدة أنايا واستمرارها وثباتها رغم تغير أحوالها، وكثرة تتجلى في ارتباط وجود هذه الأنا بأكثر من مجال ومستوى وعلاقة.. لا يتعلق السؤال عن حقيقة الأنا بين الوحدة والكثرة بالسؤال عن أنا فردية وعينية، ولكن بالبحث عن مقومات الوجود الإنساني ذاته. وبعبارة أكثر دقة ومباشرة يتعلق السؤال بتحديد ما يشكل حقيقة الإنسان من جهة تعيين ما يتمايز/يختلف به بشكل مطلق عن الوجود الحيواني، فيكون هذا التمايز هو أساس وضع الخط الفاصل بين الوجود الإنساني من جهة والوجود الحيواني من جهة ثانية.
لا يتعلق السؤال، بالسؤال إذن عن أنا فردية وعينية وإنما يتعلق بالسؤال عن " الإنساني". يجب أن ننتبه في هذا المستوى إلى وقوع تحول أساسي في مستوى صياغة السؤال عن الإنسان من التفكير في مسألة الإنسان إلى التفكير في "الإنساني". فما هو مبرر هذا التحول في الصياغة؟ وماهي استتباعات هذا التحول في تحديد خصوصية ورهان الاستشكال الفلسفي للتفكير في الإنسان؟
ارتبط السؤال الفلسفي تقليديا عن الإنسان بصياغة مخصوصة تسأل عن الإنسان اعتمادا على صيغة " ما هو الإنسان؟"، صياغة ستجد تعبيرها النهائي في التحديد الكانطي لرهان الفلسفة وسؤالها الأساسي الذي ترجع إليه بقية الأسئلة في سؤال " ما الإنسان؟". تفترض هذه الصيغة التفكير في الإنسان من جهة الماهية واثبات ماهية مطلقة ومتعالية للإنسان. غير أنه ومنذ لحظة هيقل المرتبطة بالتفكير في الإنسان في علاقة بالعالم والآخر سيصبح هذا التحديد الماهوي القائم على الصياغة الميتافيزيقية لسؤال " ما هو الإنسان؟" صياغة لا شرعية من جهة كونها لا تقبل التفكير في الإنسان ككثرة ايجابية.بذلك ستستعيض الفلسفة عن الصياغة الكانطية للسؤال عن الإنسان " ما هو الإنسان؟" إلى صياغة مستحدثة للسؤال هي صياغة " من هو الإنسان؟" صياغة، كما سنرى، ستسمح بالتفكير في الإنسان من جهة الكثرة المنفتحة وليس الوحدة المنغلقة ، من جهة شروط وكيفيات تحقق الوجود الإنساني فعليا وواقعيا وليس النظر إلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان. على هذا الأساس فان اعتماد مفهوم الإنساني عوضا عن صياغة أولى، تسأل عن الإنسان بإطلاق، إنما يحيل إلى هذا الوعي بما يكتنف المسألة من غموض وتعقيد. وهي محاولة لتشريع البحث في الإنسان انطلاقا من صياغة محايدة تحاول استشكال كلا المقاربتين للتفكير في الإنسان والتثبت من إمكان الارتقاء بالوجود الإنساني إلى مستوى الكوني وتحديد صعوبات واحراجات هذا المطلب.
إن ربط مطلب الكلي بالإنساني، وان بدا انه يتقدم بنا خطوة حاسمة في اتجاه مقاربة سؤال ما الإنسان، فانه لا يخلو من استشكال حين يكون حدي "الإنساني" تقابل مفترض بين "الوحدة" و"الكثرة".
إذا كان معنى" الإنساني" يمكننا أن نتجاوز، لحظة، تعقيدات التردد بين صيغتين مختلفتين للسؤال عن الإنسان ؛بين صيغة "ماهو الإنسان؟" ذات الطابع الماهوي والأفق الميتافيزيقي الكلاسيكي،وصيغة "من هو الإنسان؟"الأكثر معاصرة، فان ربط الإنساني بحدين يفترض فيهما التقابل وليس التقاطع؛"الوحدة" من جهة و"الكثرة" من جهة ثانية،يحيلنا إلى مزالق لا تقل حدة نظرا لما يترتب عن استتباع هذا التقابل على تحديد دلالة الكلي/الكوني سواء تعلق الأمر باستتباعات معرفية أو خاصة ايتيقية قيمية تتعلق بما سبق وان حددناه من رهان مركزي لمقاربة الفلسفة لمسالة الإنسان وتحديدا تعيين شروط العيش المشترك.
إن ربط الكلي بالوحدة يربط "الإنساني"بما هو جوهري؛ فالإنساني يتعين كجوهر قائم بذاته؛ مطلق وثابت وهو تصور الإنسان الذي طبع تاريخ الفلسفة منذ الفلسفة اليونانية إلى حدود لحظة الحداثة مع هيقل ، "حيث أنّ النفس لدى اليونان، مثلها مثل "الذات" أو "الأنا" لدى المحدثين، هي "جوهر" قائم بنفسه، أي هو "حامل" منطقي وأنطولوجي لصفات أو أعراض متعددة لا توجد إلا به، في حين أنّه هو مستغن عنها في استمرار وجوده لأنها ليست من مقومات ذاته".بذلك فان الإنسان يتقوم بماهيته وينظر إليه من جهة هذه الماهية التي يحملها. مقابل هذه الماهية، والتي سواء تعينت كنفس عاقلة عند القدامى، أو كذات أو أنا عند المحدثين فان الكثرة لا تتجاوز مرتبة ما هو عرضي. إن الكثرة، أن كانت داخلية؛ الجسد والرغبات والأهواء، أو خارجية؛ العالم والآخر، هي مجرد أعراض. فهي وان ارتبطت فعليا بالوجود الإنساني، و تعلقت بالإنسان فإنها لا تدخل في تعيين حقيقته لا على المستوى المعرفي ولا على المستوى الأنطولوجي، ذلك أن معرفتها كما وجودها يضلان مشروطان بمعرفة ووجود الماهية من جهة أولى، إما من جهة ثانية فان الجهل بمعرفتها أو وجودها لا يربك يقيننا في معرفة ووجود الماهية(سواء كانت نفس أو ذات أو أنا).
إن تحديد "الإنساني" تحديدا ماهويا يرتبط بالوحدة ويستبعد الكثرة يتشكل معه مطلب الكلي ذاته ماهويا.يفترض هذا التحديد الماهوي للإنسان تراتبا داخل الوجود فليس للموجودات نفس المرتبة والمنزلة الأنطولوجية. وليس التأكيد على أفضلية النفس أو تعالي الذات غير بحثا يبتغي تأكيد واثبات رفعة المنزلة الإنسانية.

فحقيقة الإنسان وجوهره،أي إنيته وفق هذا التصور، كما وجوده الفعلي، يشترط هذه الوحدة التي تتعين في ماهيته بما هو جوهر قائم بذاته ومكتف بها. أما "الخارجات"،وسواء كانت داخلية أو خارجية فهي "غير" وإطارها "الغيرية" أي غير "الإنساني" إذ لا يشترط في تحديد الإنساني حضورها، وهي بذلك لا ترتقي إلى مستوى الكوني/الكلي، بل إن منزلتها العرضية، تلك، تمثل من بعض الوجوه عائقا يحول دون تحقق الإنساني في الإنسان على وجه كلي/كوني.
هذا الربط بين الانية ووحدة النفس العاقلة ،داخل الفلسفة القديمة،أو الذات، داخل الفلسفة الحديثة، بحثا على إثبات رفعة المنزلة الإنسانية وشرفها، أو تأكيدا على فاعليتها، لا يمثل في ذاته مشكلا من جهة كونه رهانا ومطلبا مشروعا، إنما يعود الإشكال الحقيقي في السؤال عن مشروعية هذا الاختزال الذي يسم هذه الانية، والإمكان الفعلي والايتيقي لاستبعاد "الجسد" و"العالم" و"التاريخ" و"الآخر" من مجال تحديد الإنساني في علاقة بمطلب الكلي.
إن تجليات الوجود الإنساني تبرز لنا وبشكل مباشر خصوصية هذا الوجود الذي هو وجود علائقي و تعددي.إذ أن التحديد السابق للإنية واشتراط إمكان إثبات وجود الأنا ، ومعرفتها في تعلقه بضرورة اعتبار هذه الانية مطلقة ومتعالية وثابة ، يضعنا أمام إحراج متعدد الطبقات. يمكن أن نختزل مجمل هذه الاحراجات فيما سبق وأن حددناه من مقتضى التفكير في مسألة الإنسان ؛ أي ربط هذا التفكير بمطلب الكلي، بما هو بحث عن شروط إمكان التأسيس لمطلب العيش المشترك كرهان إيتيقي أقصى، هو أفق ومقتضى البحث ذاته، يستلزم ، ضرورة رفض كل أنانة تقيم حاجزا بينها وبين الآخر. إن تحديد مقتضى العيش المشترك كأفق للنظر في الإنسان على أساسه يكون تناوله من جهة البحث عن الإنساني هو إقرار بكون مقاربة الإنساني تستلزم النظر في كثافة وجود الإنسان كثافة تتجلى في تعدد العلاقات التي يرتبط بها ويتداخل في ضلها وجوده وتتحدد بها ومن خلالها إنيته.
يرتبط النظر في " الإنساني بين الوحدة والكثرة"، إذن، بالتوتر القائم بين النظر للإنسان كهوية تعين تمايزه وتفرده يعود هذا التحول إلى الوعي بما يكتنف الوجود الإنساني من مفارقات ضمن مطلب الكلي. ذلك أن تحديد هذا الكلي في مستوى التفكير في الإنسان مربوط إلى التوتر القائم في مقاربة " الإنسان" بحدود مسألة "الوحدة والكثرة". فان كانت الوحدة تفترض في الإنية كحالة وجودية، تؤسس لما يجعل من الذات موجودا لأحل ذاته( بتعبير سارتر) متميز في خصوصية وحدته عن غيره، من أجل التفرد ضدا على التشابه والنمطية، على غرار نمطية الأشياء الموجود في ذاتها، من جهة والنظر لهذا الوجود باعتباره ثابت ومطلق ومتعال من جهة ثانية. ولكنها تنفتح به في نفس الوقت على وجوده كموجود في الوجود في بعده التعددي والعلائقي. بذلك تكون الكثرة حالة وجودية علائقي تخرج فيها الذات عن ذاتها المنغلقة على ذاتها والمكتفية بذاتها نحو التاريخ والجسد والغير، دون أن يعني خروجها هذا، خروجا عن ذاتها أصلا، وإنما هو خروج يمثل شرط إمكان معرفة ذاتها واثبات وجودها بما يحقق إنيتها.
هذا الربط بين " الوحدة" و " الكثرة" في تعيين "الإنساني " يستلزم النظر إلى الحدين لا على أساس التباعد والتنابذ وإنما التجاذب والتفاعل ايجابيا بما يثبت أن الانية لا تكون إلا "هوية مركبة".

إن اشتراط تحقق الإنية بضرورة خروج الذات عن ذاتها، وانفتاحها على " الآخر"؛"عالما" و "أنسانا"، بقدر ما يقيم وصلا بين الأنا" و الغير ورفعه لدرجة الآخر الذي لا أكون إلا به، يستوجب النظر في تحديد شروط وآليات ومقتضيات التواصل التي تجعل من تأسيس الإنساني تأسيسا يراهن ويحقق مطلب العيش المشترك.
إن رد الوحدة إلى كثرة لا يعني تلاشي الأنا و ضياعه في كثرة تطمس وحدته وتنفي تمايزه وخصوصيته، وإنما يعود هذا الرد إلى تأسيس وضع هذا الأنا في إطار ما ينسجه من علاقات تواصلية مع الآخر. يتعلق الأمر إذن بجدلية فصل ووصل؛ فصل يثبت للانية وحدتها وتفردها، ووصل يشرط هذه الوحدة والتمايز بالتواصل مع الآخر.
يتحدد مفهوم التواصل بداية باعتباره المقتضى الذي بقدر ما يستبطن ويفترض الفصل وتمايز الأنا، يمثل في نفس الوقت شرط إمكان تحقق الوصل؛ إنه بهذا المعنى " وساطة" وجسر.التواصل الإنساني هو "وساطة" لا من جهة النظر إليه كأداة، وإنما باعتباره، في نفس الوقت، التجلي والمقتضى لتحقق الإنساني على وجه كوني. فالتواصل هو تواصل إنساني من جهتين: من جهة أنه يقيم خطا فاصلا بين الوجود الإنساني و "الطبيعة" إذ إذ تشكل وسائط التواصل قطعا وتعاليا على مستوى الوجود الطبيعي الخام من خلال ما يضمنه من علاقة غير مباشرة بين الإنسان والطبيعة. فالتواصل بما هو خاصية إنسانية هو خاصية ينفرد بها الإنسان وتهبه نمط وجود يختلف جذريا عن نمط الوجود الحيواني. وهو تواصل إنساني من جهة ما يضمنه من إمكانات تحقق تواصل كوني بين الإنسان والإنسان. إن التواصل لا يلغي التمايز والاختلاف والتفرد، بل لعله لا يكون ممكنا أصلا، ولا ذا معنى دون الإقرار بهذا التمايز بين الأنا والآخر تمايزا يجعل من التواصل ، في نفس الوقت ممكنا ومطلبا. إننا ، وكما تبرز لنا ذلك تجربتنا الخاصة، لا نتواصل مع الغريب بإطلاق لانعدام إمكان التواصل أصلا، ولا نتواصل مع الشبيه بإطلاق لعدم الحاجة للتواصل معه كذلك أصلا التواصل لا يكون إذن إلا مع المختلف والذي يحوز منزلة بين منزلتين؛ منزلة الغريب ومنزلة المماثل.
يتحدد التواصل بما هو إنساني في تشكله عبر وسائط رمزية هي "الأنظمة الرمزية". وهي وسائط بما هي جسور ، بقدر ما تثبت وتعين وجود مسافة بين الأنا والآخر فإنها، وفي نفس الوقت، تجعل من قطع المسافة ممكنا والاقتراب من الآخر يسيرا. إن هذا التواصل بما هو إنساني من حيث المجال والآليات والغايات إنما يتأسس على وحدة الإنساني ذاته. إمكان التواصل وتحقيق الالتقاء والتفاهم يضل مشروطا بداية بمقتضى الوحدة، وحدة تجد سندها في وحدة الوضع البشري، وخصوصية هذا الوضع، بما هو وضع متعال ومفارق يؤسس لوجوده بتحقيق انفصاله عن مستوى الوجود الطبيعي. وهو بتعيينه للمنزلة الإنسانية في قطعها مع مستوى الوجود الطبيعي، إنما يؤسس في آن واحد للانفتاح على الغير.
يتجلى هذا الانقطاع فيما يميز علاقة الإنسان بالأشياء إذ تتحدد هذه العلاقة بما هي علاقة غير مباشرة تنتظم ضمن وسائط تكون هي الوسيط بين الإنسان والأشياء. إننا لا نقبل على الأشياء مباشرة ولكن بتوسط الرموز التي يصنعها الإنسان ويستحدثها فتكون علاقته لا بالأشياء في ذاتها وإنما بالرموز التي تحيل عليها.


قد لا تكون مسألة التواصل على هذا القدر من الوضوح، ولا على هذا القدر من البساطة. إذا كان مفهوم التواصل يحيلنا بداية إلى عملية ثلاثية الأبعاد تتركب وتقتضي توفر ثلاثة معطيات مرسل و رسالة والمرسل إليه.
غير أن ما يجب الانتباه إليه هو مدى التعقيد الذي يلف هذه العملية في كل أجزائها، ذلك أننا وسواء تعلق الأمر بالمرسل أو المرسل إليه فإننا في الحالتين أمام ذات واعية أمام ذوات واعية. الذات المرسلة لا يتعلق فعلها بمجرد الإخبار المحايد وإنما تبحث من رسالتها على إحداث تأثير محدد في المتلقي تتحقق به مصلحة ما، بغض النظر عن طبيعة هذه المصلحة إن كانت مادية أو معنوية. والذات المتقبلة ذاتها لا تقبل الرسالة على أساس من الشفافية المطلقة وإما من خلال عمل تأويلي يسبغ على الرسالة ، عن قصد أو دونه، معطيات ذاتية تبتعد قليلا أو كثيرا عن مقصد المرسل. والرسالة ذاتها غالبا ما لا تكون واضحة و أحادية المعنى، لا من جهة الالتباس التي يحكمها في علاقة بمقاصد المرسل أو تأويل المرسل إليه، وإنما في علاقة بطبيعة قناة الاتصال التي تحمل الرسالة، و التي تؤثر في مضمون الرسالة حسب خصوصية قناة الاتصال ذاتها .
إن مجمل هذه التعقيدات تلبس مسألة التواصل كثافة إشكالية مركبة من جهة تعدد المفارقات التي تشقها وتنوع الرهانات التي تعمل على التأسيس لها.
تبرز أهم هذه المفارقات، من جهة راهن المسألة، فيما هو مفترض في التطور التقني لوسائل الاتصال من تيسير لإمكانات التواصل بشكل لم تعهده البشرية من قبل، غير أن هذا التطور التقني ذاته أضحى في حضارتنا المعاصرة المرتبطة بتنامي النزعات الفردية وغلبة المصلحة والمنفعة الشخصية أداة وتجليا لواقع الانفصال والعزلة ورفض الآخر.إن مثال الانترنت يعد في هذا الإطار أبلغ مثال لواقع المفارقة هذا؛ فعالم الانترنت بقدر ما يتيح لنا إمكانات اللقاء مع الآخر خارج حدود الثقافة والجغرافيا فانه ، وفي نفس الوقت، يعزل الفرد عن الآخرين ، حتى أقرب أقربائه . والحال ذاته يصح على السيارة التي وان كان مفترض فيها أن تجعل من التواصل أيسر و أسرع فان السيارة ومع تزايد وسائل الرفاهية داخلها تخلق عالما خاصا وحميميا يعزل السائق والراكب عن الآخرين .
بالإضافة لهذه المفارقات، فان رهانات التواصل ذاتها لا تقل تناقضا. إن التواصل بقدر ما يمكن أن يشرع للالتقاء مع الآخر وتحقيق التفاهم معه، فان التواصل كذلك يمكن أن يراهن على السيطرة والهيمنة على الآخر.
إن تجاوز هذه المفارقات يستوجب النظر في دلالة التواصل ذاته، وتبين الخصوصية التي تؤسسه، وفي نفس الوقت، تشرعه في إطار مطلب الكوني. يتشكل التواصل مع الآخر، ضرورة بما هو آخر، من خلال وسائط.فما هي طبيعة هذه الوسائط التي تحقق إمكان التواصل مع الآخر؟
يتحدد التواصل الإنساني في علاقة مع جملة من الوسائط الرمزية من لغة ودين وصورة فهل يمكن لأنظمة التواصل هذه أن تحقق تواصلا كونيا يحقق الإنساني على وجه كلي ويضمنه أم أن أنظمة التواصل هذه تمثل خطرا وتهديدا حقيقيا لمطلب الكوني حين تكون أدواتها المغالطات بكل أشكالها ويكون رهانها التحكم والسيطرة؟ يتعلق الأمر إذن في نهاية الأمر بتحديد إيتيقا التواصل بما يكرس العيش المشترك.

لا يتعلق مطلب العيش المشترك بمستوى وجودنا الفردي حصرا، وإنما يتجاوزه إلى مطلب العيش المشترك في إطار الوجود الثقافي المشترك والعلاقة بين الثقافات المختلفة. إن هويتنا وان كانت أساسا هوية شخصية تفترض وتطلب إيتيقا تواصل، مع هوية شخصية مغايرة، تتأسس ذاتها في رحم الهوية الثقافية التي ينتمي لها الشخص، بذلك يكون وجودنا وجود ثقافي بالأساس. إلا أن دلالة الثقافة التي نقاربها في هذا المستوى لا تختزل في مقابل ماهو طبيعي، وإنما تتشكل في إطار " الهوية الثقافية" لمجموعة بشرية محددة.
يلتبس هذا الوجود الثقافي للإنسانية بمفارقات متعددة؛ فبقدر ما يحمل الإنسان داخله من نزوع نحو الكوني يربطه بالإنسانية جمعاء ، يؤشر على الوحدة، وعلى الوجود النوعي للإنسان في تمايزه عن الوجود الحيواني، فان واقع الوجود الثقافي الإنساني ذاته يتشكل في إطار كثرة متعين في تعدد وتنوع الثقافات. فكيف نفهم هذا الاجتماع في الإنسان بين واقع الكثرة؛ كثرة الثقافات وتنوعها ومطلب الوحدة؛ وحدة الثقافة الإنسانية ورهانها المتمثل في مطلب العيش المشترك المشروط بتكريس هذه الوحدة؟
إننا بصدد مفارقة قوامها واقع الخصوصية ومطلب الكونية.
وحين ننظر للواقع الإنساني وما يفرضه من وحدة حقيقية لتجاوز مشاكل الحروب والصراعات الدامية والتلوث البيئي والتسلح اللذان يهددان وجود البشرية من جهة، وتنامي روح التطرف القومي والتعصب الديني والهيمنة والسيطرة بأشكالها المتعددة السياسية والاقتصادية والثقافية ألا يجعل كل ذلك من النظر في المسألة أكثر من مبرر وإنما ضرورة لا يمكن تحقيق مطلب العيش المشترك إلا في إطارها؟
إن تحقق الإنساني على نحو كوني مشروط إذا بامتحان مدى قابلية التحديد الذي يمكن إن نظفيه على دلالة هذا الإنساني بضمان العيش المشترك بشكل يتوافق مع رهان الكلي أي فضح جميع الوضعيات التي لا تجعل من الإنسان قيمة مقدسة ولا تجعل من قيم الحق والعدل و الجمال والخير قيما مطلقة تؤسس الوجود الإنساني وتضفي عليه المعقولية.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا