الاثنين، 19 أكتوبر 2009

  يسعدني أن أعرض هذا الدرس حول مسألة الغير في برنامج الفلسفة المغربي منقولا عن موقع فيلوصوفيا الذي يشرف عليه الأستاذ كمال صدقي  
مفهــــوم الغيــــــــر



















مـدخـــــل:


يحيل لفظا الآخر و الغير،في اللغة العربية،على معنى الإختلاف و التمايز أو المغايرة،سواء كان المقصود بذلك الإنسان أو الأشياء..أما في اللغة الفرنسية فنجد تمييزا أكثر دقة بين لفظ الآخر( Autre ) الذي يستخدم للدلالة على الإختلاف بين الأشياء أو الناس، و بين لفظ الغير (Autrui) الذي تقتصر دلالته على الآخر البشري....


وعلى مستوى التحديد الفلسفي، نجد في معجــم "لالانــد" : "الآخــــر هو أحد المفاهيــم الأساسيـــة والأولى للفــــكر، ومـــن ثم يستحيل تعريفه. يتقابل مع الهو هو( le même )، ويعبر عنـــــــه بالمتنوع ( le divers ) والمختــــــــــلف (le différent) والمتميز (le distinct)"... ومعنى ذلك أن "الآخر" هو مفهوم بسيط أولي ، يتأسس عليه التفكير ولا يمكن تعريفه إلا من خلال مرادفاته أو مقابلاته ... أما مفهوم "الغير" فيتخذ - في دلالته الفلسفية - معنيين متقابلين، بحيث يتحدد - عند "لالاند" - في "الأنا الآخر" (Alterego ) مما يجعله متطابقا أو متماهيا مع الأنا ، ويأخذ عند "سارتر" معنى "الأنا الذي ليس أنا" ، وهو ما يفترض الإختلاف والتعارض مع الأنا.. فمفهوم الغير يتأسس على المفارقة التي تجعل منه ،في نفس الوقت، مطابقا للأنا (أنا آخر مثلي ) ومخالفا لها (أنا ليس أنا)، الشيء الذي سينعكس في القضايا والأطروحات التي ارتبطت بهذا المفهوم في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر بالخصوص، وأهم هذه الإشكالات :


1- وجـــــود الغيـــــر : هل من ضرورة لوجود الغير بالنسبة للأنا ؟ وهل يتمكن الأنا من الوعي بذاته في استغناء تام عن الغير، أم أن الغير يعد شرطا لازما لتحقيق هذا الوعي ؟


2- معرفـــة الغيــــــر : هل يمكن تحقيق معرفة حول الغير في ظل المفارقة التي يبدو معها شبيها بالأنا ومخالفا لها ؟


3- العلاقـة مع الغيــر : كيف تتحقق العلاقة الأخلاقية مع الغير؟ هل بوصفه نظيرا للأنا يستوجب المودة والتعاون ؟ أم باعتباره غريبا يجب نبذه ؟ وهل الإقصاء هو الموقف الوحيد الممكن تجاه الغير الغريب ؟






قضــــايا وأطـروحــــــات :






المحور الأول : وجـــــــود الغيـــــــر


تعتبر إشكالية الغير حديثة العهد في الفكر الفلسفي الغربي ، حيث لم تظهر معالمها الأولى إلا مع الفلسفة الديكارتية (ق17) ، قبل أن تتبلور بشكل واضح مع " هيجل" (ق19).. أما الفكر اليوناني السابق ، فقد ظل منشغلا بالبحث في الوجود بشكل عام (الأنطولوجيا) من خلال النظر إلى الموجودات - بما فيها الإنسان - اعتمادا على مفهومي الهو هو (le même) والآخر (l’autre)، وذلك للدلالة على ماهية الموجودات من خلال مبدأ أو معيار التطابق و الاختلاف الذي يفيد أن الشيء يبقى "هو هو" إذا كان مطابقا لذاته ، وعبارة عن "آخر" في علاقته بالأشياء الأخرى التي تختلف عنه...وعموما ، عرف عن الفلسفة اليونانية عدم إنتاج تصورات تخص مفهوم الغير نظرا لهيمنة البحث الأنطولوجي في ماهية الموجودات عامة من الناحية الفكرية، ونظرا لهيمنة نزعة الإقصاء والتدمير في ثقافة المجتمع اليوناني العبودي القديم ، سواء تجاه الغير الداخلي (العبيد) أو الغير الأجنبي ( الشعوب الأجنبية التي كان يطلق عليها اليونانيون صفة المتوحشين.. "les barbares" ).






1- الفلسفة الحديثة :


+ ديكـــارت :


في الفلسفة الحديثة ستظهر الإرهاصات الأولى لفكرة الغير في التصور الديكارتي القائم على اعتبار أن ماهية الإنسان تتمثل في "الذات المفكرة" أو ما يعبر عنه ب"الكوجيطو" (Le Cogito) . فقد كانت النتيجة الأساسية للشك المنهجي عند "ديكارت" هي التأكيد على أن التفكير هو جوهر الذات الإنسانية، لكونه يمثل الحقيقة اليقينية التي تفرض نفسها على العقل دون حاجة إلى الإستدلال. فوجود الأنا ووعيه بذاته يمثل يقينا لا يقبل الشك، أما وجود الغير فلا يعدو أن يكون وجودا جائزا محتملا أو افتراضيا يحتاج إلى استدلال العقل وحكمه، وهو ما يعني أن وعي الأنا بذاته لا يمر بالضرورة عبر الآخر أو لا يشترط وجود الغير. وهذا ما يشير إليه قول "ديكارت" التالي :


" أنظر من النافذة فأشاهد بالمصادفة رجالا يسيرون في الشارع، فلا يفوتني أن أقول عند رؤيتهم أني أرى رجالا بعينهم، مع أني لا أرى من النافذة غير قبعات ومعاطف قد تكون غطاء لآلات صناعية تحركها لوالب، لكني أحكم بأنهم ناس..إذن فأنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني "...


وهكذا يلاحظ أن النتيجة المنطقية لهذا التصور هي القول بوحدانية الذات (Le Solipsisme)، لأن كل ما أكون متيقنا منه هو أنني أنا وحدي موجود، أما وجود الغير فهو مجرد وجود افتراضي قابل للشك أو محتمل وجائز فقط ، بحيث يتوقف على إثبات العقل وليس وجودا بديهيا وضروريا كما هو الأمر بالنسبة للأنا.






+ هـيجــــل :(1770/1831)


مع "هيجل" نجد تجاوزا صريحا للنزعة الذاتية التي تأسست عليها فلسفة "ديكارت"، والتي تتمثل في اعتبار أن الأنا يحقق وعيه بذاته في استقلال أنطولوجي مطلق عن العالم والآخرين . ف "هيجل" يؤكد على ضرورة وجود الغير في تشكيل الوعي بالذات، وذلك لأن الإنسان لا يكتمل وعيه بذاته إلا عبر الإعتراف به من طرف الغير . فكل ذات ترغب في الإعتراف بها من طرف الآخرين، ولا قيمة لوعي ذاتي منعزل لا يحظى بالرضى أو القبول من طرف الغير.. وما دامت غاية الحصول على الإعتراف تميز الأنا و الغير معا، فإن نتيجة ذلك هي دخول الطرفين (أو الوعيين) في صراع لا ينتهي إلا باستسلام أحدهما لتنشأ بينهما علاقة السيد بالعبد أو التابع. وبذلك يقر "هيجل" بأن الوعي بالذات لا يتحقق بشكل معزول عن الغير، بل يتوقف على اعتراف يكون ثمنه صراع يفضي إلى السيادة و التبعية بين الذوات.


وعموما يتضح، في سياق الفلسفة الحديثة،أن الغير لا يعد شرطا ضروريا للوعي بالذات ما دام وجوده لا يبلغ درجة البداهة مقارنة مع وجود الأنا من منظور الفلسفة الذاتية (ديكارت)، ويصبح شرطا لازما لوعي الأنا بذاته عبر الدخول معه في صراع للحصول على الإعتراف من منظور الفلسفة الجدلية (هيجل).






2- الفلسفة المعاصرة :


بالإنتقال إلى الفكر الفلسفي المعاصر، نجد حضورا أو استمرارا لمشكلة وجود الغير كما يتجسد ذلك عند ممثلي الفلسفة الفينومنولوجية التي عرفت بدفاعها عن الهوية الذاتية للفرد أمام كل أشكال التبعية التي يمكن أن تخضع لها. وهذا ما نلمسه عند "هايدغر"(1889/1976) في تأكيده على أن الغير يمثل تهديدا للأنا، وذلك لكونه يفقده مقوماته الخاصة و يجعله خاضعا لسلطة و هيمنة الآخرين كما يبدو ذلك واضحا في ما يسميه "هايدغر" بدكتاتورية ضمير ال "هم" (on ). ومعنى ذلك أن دخول الأنا في نسق العلاقات الإجتماعية يشكل سببا في ذوبان الهوية الشخصية للفرد وضياع وجوده الفعلي أو العيني الذي يسميه "هايدغر" ب"الدازاين" (Dasein )، ويقصد به وجود الذات في فرديتها ..


كما نجد موقفا مشابها في سياق الفلسفة الوجودية . فبناءا على المبدأ الذي يتمسك به الوجوديون في تصورهم لماهية الإنسان، والمتمثل في القول بأسبقية وجود الإنسان على ماهيته مع تركيزهم على دور الحرية والإرادة الفردية في بناء هذه الماهية، سيضفي هذا الموقف طابعا فرديا و متغيرا باستمرار على حقيقة الإنسان، بحيث تكون النتيجة المنطقية لذلك هي استحالة وضع تحديد أو تعريف نهائي لماهية الإنسان التي تظل على الدوام عبارة عن "مشروع" غير مكتمل يعبرعن طبيعة الإنسان ككائن متوجه نحو المستقبل بفعل اختياراته التي تنبثق من إرادته الحرة… وبناءا على ذلك، سيمثل الغير بالنسبة للوجوديين مشكلة فعلية لأنه بمثابة عامل يحد من حرية الأنا.. وهو ما يعبر عنه "سارتر" حين يِؤكد أن وجود الغير يمثل مشكلة بالنسبة للأنا نظرا لميل كل طرف إلى تشييء الطرف الآخر من خلال النظرة ( Le regard ) التي تفقد الذات كل مقومات الوعي و الإرادة و الحرية كما يشير إلى ذلك قوله المشهور : "الجحيم هم الآخرون ". غير أن الغير يظل، مع ذلك، شرطا ضروريا لتحقيق الأنا وعيها بذاتها، وذلك لأن أحكام الغير و مواقفه تفرض نفسها على الذات أو الأنا. فالغير، رغم كونه عاملا سالبا لحرية الذات ، يظل شرطا لازما لحصول وعي الأنا بذاته.


هكذا يتأكد، من منظور بعض الفلسفات المعاصرة ،أن وجود الغير قد يمثل تهديدا للأنا عندما ينصهر هذا الأخير في العلاقات الإجتماعية التي تسلبه وجوده العيني و الفردي (هايدغر)، و قد يشكل وجود الغير شرطا لا مفر منه لوعي الأنا بذاته بالرغم من العلاقة التشييئية التي تحكم علاقة الأنا بالغير(سارتر).






المحور الثاني : معرفـــة الغيـــــــر


تمتد إشكالية الغير إلى المجال المعرفي، حيث تطرح إمكانية أو استحالة قيام معرفة يقينية حول الغير. وقد أنتجت الفلسفة المعاصرة تصورات متباينة في هذا المجال، يقر بعضها بصعوبة أو استحالة قيام علاقة معرفية تسمح بالتواصل مع الغير، بينما يبحث بعضها عن تأكيد إمكانية معرفة الغير بغاية تحقيق التواصل معه...






1 - استحالـــة المعرفـــة :


+ جان بول سارتر :(1905/1980) الغير كموضوع (أو كشيء)


تأخذ العلاقة المعرفية بين الأنا والغير طابعا تشييئيا كما يبدو ذلك في "النظرة" التي ينتج عنها تجميد لعفوية الذات وتلقائيتها. فالأنا تنظر إلى الغير كشيء خارجي، فتنزع عنه بذلك كل معاني الذات لتحوله إلى شيء أو موضوع فاقد لمقومات الوعي والحرية..ومعنى ذلك أنه بمجرد دخول الأنا والغير في علاقة معرفية يتحول كل منهما إلى موضوع بالنسبة للآخر، وهو ما يخلق هوة عميقة يستحيل معها إدراك العالم الباطني للغير، لأن ما يتبقى منه لا يشكل سوى "شيئا" يتم إدراكه بكيفية موضوعية خارجية مثل بقية الأشياء. وإذا كانت نظرة الآخر تحد من حريتي وتفقد كينونتي ما يميزها من صفات الذات، فإنه سيمثل جحيما لا يطاق كما تدل على ذلك عبارة "سارتر" المشار إليها سابقا.






+ غاستون بيرجي :(1896/1960) الغير كتجربة معزولة


نجد موقفا مشابها عند "غ / بيرجي" يقوم على اعتبار أن كل ذات تمثل تجربة معزولة وغير قابلة للإدراك من طرف الآخرين. فكل فرد يعيش داخل عالمه الخاص الذي لا يمكن للغير ولوجه والإطلاع على حقيقته ، كما أن الفرد لا يستطيع أن ينقل إلى الآخرين تجربته أو يخبرهم عنها مهما حاول ذلك (تجربة الفرح مثلا) . ومن جهة أخرى، يستحيل على الأنا أن يدرك ما يختزنه العالم الباطني للآخرين، أو يعرف تجاربهم الخاصة، رغم ما قد يبديه تجاههم من تعاطف أو مشاركة وجدانية (تجربة الألم مثلا).. وهكذا، فالتجربة الذاتية ، والتي تشكل الوجود الحقيقي لكل فرد ، تظل مستعصية عن المعرفة ما دام كل واحد سجين عالمه الخاص مثلما يعبر عن ذلك "غ/بيرجي" في قوله :


" هكذا هو الإنسان ، سجين في آلامه، ومنعزل في لذاته، ووحيد في موته...محكوم عليه بأن لا يشبع أبدا رغبته في التواصل، والتي لن يتخلى عنها أبدا " .






2 إمكانيــة المعرفـــــة :


في مقابل هذه التصورات التي تنفي إمكانية حصول معرفة بحقيقة الغير، تبنت بعض الفلسفات المعاصرة (الفينومنولوجيا / Phénoménologie La ) موقفا يطمح إلى تجاوز الصعوبات التي تكتنف معرفة الغير، ومن بين ممثلي هذه الفلسفة :






+ موريس ميرلو- بونتي :(1908/1961) الغير كذات


يرفض العلاقة التشييئية أو الجحيمية التي ينطوي عليها موقف "سارتر"، مؤكدا على ضرورة تجاوزها نحو علاقة إنسانية بين الأنا والغير، تقوم على الإعتراف المتبادل بكل منهما كذات واعية حرة تتطابق مع الطرف الآخر ولا تتناقض معه، الشيء الذي سيسمح بنشوء علاقة التعاطف والمشاركة الوجدانية بينهما..ويعبر"ميرلو- بونتي" عن ذلك في قوله :


"والواقع أن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع، إلا إذا انسحب كل منا وقبع داخل طبيعته المفكرة، وجعلنا نظرة بعضنا إلى بعض لا إنسانية، وإلا إذا شعر كل منا بأن أفعاله بدلا من أن تتقبل وتفهم، تخضع للملاحظة مثل أفعال حشرة".


وبناء على هذا الإعتراف المتبادل، يصبح الغير قابلا للإدراك من خلال الإستدلال بالمماثلة كأسلوب يقتضي أن يقيس الإنسان أفعال الغير على أفعاله هو لكي يدرك دلالتها ومعناها الباطني أو النفسي (Raisonnement par analogie ) كما يؤكد "م بونتي" في قوله : "إني أرى الآخرين من حولي يستخدمون الأدوات بكيفية معينة، فأماثل بين سلوكاتهم وسلوكاتي، وأقارن بين تجاربهم وتجربتي التي تعلمني معنى الأفعال التي أدركها والقصد منها.."؛ أو عن طريق المشاركة الوجدانية التي تقوم على التعاطف مع الغير ومشاركته مشاعره بوصفه أنا آخر مثلي يمكنني إدراك عالمه الباطني.. وهكذا، بدل النظر إلى الغير كشيء أو كموضوع، يقوم هذا الموقف على الإعتراف بالغير بوصفه "ذاتا" مطابقة للأنا، يمكن إدراك معاني أفعالها وطبيعة مشاعرها باعتبارها مطابقة لدلالة أفعال الأنا ومشاعرها.






+ ماكـس شـيلـر :(1874/1928) الغير ككلية


يقوم موقفه على محاولة تجاوز الثنائية التي يتم على أساسها التمييز في الإنسان بين جسم ونفس، أو بين ظاهر مادي يمكن إدراكه وباطن خفي متعذر المنال. فحقيقة الغير عند "م/ شيلر" تمثل كلا واحدا لا انقسام فيه، بحيث تكون التعبيرات الجسدية الخارجية دالة على المعاني النفسية الباطنية دون تمييز تعسفي بين الجانبين . وبذلك يتم إدراك الغير إدراكا كليا يجمع بين المعطى الجسدي الخارجي وبين ما يشير إليه من أحاسيس ومشاعر أو من معاني باطنية نفسية. ويقول عن ذلك :


"إن أول ما ندركه من الناس الذين نعيش وإياهم، ليس هو أجسادهم ولا أفكارهم ونفوسهم، بل إن أول ما ندركه منهم هو مجموعات لا تنقسم ولا تتجزأ "...فالنظر إلى الغير كوحدة أو كلية لا تقبل الإنقسام يسمح بمعرفة حقيقته كما تتجلى للأنا، حيث تحمل التعبيرات الجسدية الخارجية المعاني النفسية الباطنية المقصودة من طرف الغير، خصوصا وأن الأنا والغير تجمعهما تجربة إنسانية مشتركة تؤدي إلى توحيد المعاني والقيم التي يضفيانها على الأشياء.


هكذا يتبين أن الفلسفة المعاصرة قد احتضنت مواقف متنوعة تتراوح بين اعتبار معرفة الغير معضلة لا حل لها ما دامت تشييئية جحيمية (سارتر)، أو ما دام كل واحد يمثل تجربة ذاتية متفردة ومعزولة (بيرجي)، وبين تأكيد إمكانية معرفة الغير من خلال النظر إليه كذات لا كموضوع (ميرلو- بونتي)، أو عبر اعتباره كلية موحدة (شيلر)..وإذا كان هذا الإختلاف النظري يرجع إلى تباين المنطلقات المعتمدة من طرف كل تصور (فلسفة وجودية أو فينومنولوجية..)، فهو اختلاف يجد تفسيره - أيضا - في الطبيعة المعقدة لمفهوم الغير والتي تجعل منه نقيضا مخالفا ومثيلا مشابها للأنا في ذات الوقت.






المحور الثالث : العلاقة مع الغير (الصداقة والغرابة)


لا تقف العلاقة بين الأنا والغير عند المستويين - الأنطولوجي والمعرفي - السابقين ، بل تتخذ شكل علاقة مركبة تشمل ما هو عاطفي وجداني وما هو أخلاقي وسياسي.. وبصدد العلاقة الأخلاقية، يلاحظ أنها تختلف باختلاف الأغيار أو باختلاف المعايير المعتمدة في تصنيف الغير ، حيث أنه عادة ما يتم التمييز - في هذا السياق - بين الغير القريب الذي نرتبط معه في علاقات تقوم على التعاون والتضامن (الصداقة)؛ وبين الغير البعيد الذي يمثله "الغريب"، والذي غالبا ما يكون موضوعا للكره والعداوة (الغرابة)..


- فكيف تتحدد الصداقة كعلاقة مع الغير القريب بوصفه مماثلا للأنا؟ وهل تنحصر الصداقة في هذه الصورة أم يمكن أن تتجاوزها نحو الغير الغريب باعتباره مخالفا للذات الفردية (الأنا) أو للذات الجماعية (النحن)؟


- وإذا كان الغير الغريب غالبا ما يواجه بالإقصاء بدعوى تهديده لوحدة الأنا أو النحن، فهل تمثل هذه العلاقة العدائية الشكل الوحيد والممكن تجاه الغريب؟






1- الصداقة:


تمثل الصداقة نموذجا إيجابيا للعلاقة مع الغير، وذلك باعتبارها تجربة تكتمل فيها إنسانية الإنسان كما يدل على ذلك المعنى اللغوي للفظ الصداقة الذي يتوجه نحو معاني الحب و المودة و الرغبة.. ومن أهم التنظيرات الفلسفية التي تم إنتاجها حول مفهوم الصداقة ما يرجع إلى الفلسفة اليونانية :






+ أفلاطـون :


تنبثق علاقة الصداقة حسب أفلاطون من الحالة الوجودية التي تميز وجود الإنسان، وهي حالة وسط بين الكمال المطلق و النقص المطلق تدفع الإنسان إلى البحث الدائم عما يكمله في علاقته مع الآخرين. فالكمال الأقصى أو المطلق يجعل الإنسان في حالة اكتفاء ذاتي لا يحتاج فيها إلى الغير، وفي حالة النقص المطلق تنعدم لديه الرغبة في طلب الكمال.. فلكي تكون هناك صداقة لابد أن تكون الذات في حالة نقص نسبي يجعلها تسعى إلى تحقيق الكمال مع من هو أفضل.. و من هنا تكون الصداقة عبارة عن علاقة محبة متبادلة يبحث فيها الأنا عما يكمله في الغير، لأن كل طرف يتصف بقدر كاف من الكمال لا يحول دون طلب كمال أفضل، وبقدر من النقص الذي يدفع بالضرورة إلى طلب الكمال.






+ أرسطو:


يميز بين ثلاثة أنواع من الصداقة تختلف من حيث طبيعتها و قيمتها، فالنموذجان الأولان (صداقة المنفعة والمتعة) متغيران نسبيان يوجدان بوجود المنفعة و المتعة و يزولان بزوالهما، و من ثم فهما لا يستحقان إسم الصداقة إلا مجازا.. أما النمط الثالث (صداقة الفضيلة) فيمثل الصداقة الحقة لأنه يقوم على حب الخير و الجمال لذاته أولا ثم للأصدقاء ثانيا. وفي إطار صداقة الفضيلة تتحقق المنفعة والمتعة كنتيجتين و ليس كغايتين. غير أن أرسطو يعترف بصعوبة تحقيق صداقة الفضيلة التي تعتبر بالنتيجة نادرة الوجود، و لو تحققت لما احتاج الناس إلى العدالة والقوانين.


هكذا قدمت الفلسفة اليونانية تصورين مختلفين حول الصداقة غايتهما دفع الأنا و الغير نحو تحقيق الفضيلة كهدف أسمى للحياة البشرية. وفي ذلك تعبير عن فهم فلاسفة اليونان لطبيعة الإنسان ككائن يظل متميزا بتحكمه في الغريزة الطبيعية وسموه نحو قيمة الفضيلة. ورغم هذه الغاية النبيلة التي سعت إليها هذه التصورات، فإنها ظلت سجينة ثقافة تميز بها المجتمع اليوناني العبودي، و تقوم أساسا على إقصاء الغير المتمثل في الغريب المختلف عن الأنا عرقيا و ثقافيا، ومن ثم فتفكير اليونان في الصداقة كان بمثابة تعبير عن العلاقة مع الغير القريب، و تقصي الغير الغريب الذي يقع خارج حدود المجتمع اليوناني الصغير(الأجانب أو المتوحشون)، أو حتى داخل هذا المجتمع (العبيد).


ومع الولادة الجديدة للفلسفة الغربية خلال عصر النهضة ، ستبرز تصورات حول مفهوم الصداقة تتجاوز المعنى الضيق الذي حصره فيها فلاسفة اليونان. فبالنسبة ل"كانط"، تمثل الصداقة قيمة أخلاقية تنبني على الحب و الإحترام المتبادل وتظل غاية سامية ومثالية ينبغي أن يسعى إليها الإنسان وفقا لمبدأ الواجب المطلق الذي يتسامى بالإنسان عن الإكراهات المادية المباشرة. و معنى ذلك أن الصداقة ينبغي ألا تتأسس على المنفعة المباشرة، بل يجب أن تكون إطارا لتحقيق كرامة الإنسان التي تتمثل في الإحترام المزدوج للذات وللغير، في نفس الوقت ،وذلك طبقا لما يقتضيه المبدأ الأخلاقي الذي يتأسس عليه السلوك الإنساني عند "كانط"، أي الواجب في ذاته منزها عن أية غاية نفعية.


أما "أوغست كونت"(1798/1857)، فالصداقة ترتبط عنده بمفهوم الغيرية (Altruisme) الذي يمثل لديه واجبا على كل شخص، وهو ما يقتضي من الفرد أن يتوجه بسلوكه نحو خدمة الغير، أو أن يعيش من أجل الآخرين (الإيثار).و مبرر ذلك ، بالنسبة ل"كونت" هو أن الفرد يدين للإنسانية بوجوده، وبما يحققه من تقدم و ازدهار، الأمر الذي يستوجب منه رد الدين من خلال الإنفتاح على قضايا الآخرين، أو نكران الذات و التضحية من أجل الغير. ومن ثم فنزعة الغيرية سيكون من شأنها أن تساهم في نشر قيم التضامن والأمن و الإستقرار في العالم.


غير أن هذه المواقف المنضوية تحت لواء الفلسفة الحديثة ، والتي طغت عليها نزعة إنسانية مثالية ، ستصطدم بما ميز التاريخ الأوروبي المعاصر من حركات استعمارية وحروب متنوعة جعلت مسألة الغير تظل إشكالية تفرض نفسها على الفكر الأوروبي كما سيتجلى ذلك في الفكر المعاصر الذي انشغل بمسألة الغير ممثلا في الغريب.






2- الغرابة:


يمثل مفهوم الغرابة الوجه السلبي للعلاقة مع الغير، إذ ينطوي على اعتبار الغير الغريب نقيضا للذات الفردية والجماعية، مما يستلزم مواجهته بمختلف أساليب النبذ والإقصاء. وهي حقيقة تؤكدها الشواهد التاريخية حول نوعية العلاقة بين الأفراد و الثقافات التي تختلف من حيث طبيعة القيم و المعتقدات. و يمكن الإستدلال على رسوخ النزعة الإقصائية تجاه الغريب بما ميز المجتمعات القديمة من علاقات صراعية قائمة على أساس الدفاع عن الهوية الذاتية مقابل نفي ما يخالفها(علاقة اليونان بالأجانب - الحروب الصليبية - الإستعمار الحديث). و لذلك نلاحظ غياب التفكير في الغير الغريب سابقا، مع استثناءات قليلة ، وحضورا بارزا للتفكير في الصداقة كعلاقة مع الغير القريب(فلاسفة اليونان مثلا)...


أما الفكر المعاصر (القرن 20)، وبفعل التحولات الإجتماعية والفكرية التي ميزت العصر الراهن، فينطوي على عدة مواقف فلسفية وعلمية ترفض هيمنة النزعة الإقصائية في التعامل مع الغريب سواء تمثل في الأفراد أو في الثقافات الأجنبية، وتحاول تأسيس نظرة أخلاقية تتجاوز ما كان يميز العلاقة مع الغير البعيد أو الغريب من إقصاء و تدمير...


في هذا السياق يندرج تصور" جوليا كريستيفا "(1941/...) القائم على نقد التصور السائد حول الغريب بوصفه المختلف عن الجماعة، والذي يهدد بالتالي وحدتها وهويتها. فالإعتقاد السائد بأن كل جماعة بشرية تتأسس على هوية خالصة هو اعتقاد وهمي في نظر "كريستيفا" ، لأن كل جماعة تشتمل على غريبها، و من ثم فإقصاء الغريب بدعوى الحفاظ على وحدة الجماعة هو موقف يقوم على المفارقة و التناقض. فالوحدة المزعومة للجماعة ليست سوى مظهرا يخفي التناقضات الداخلية التي تنكشف لنا عندما ندقق النظر في الإختلافات و التمزقات التي تجعل كل جماعة تحتوي على ما هو سوي ومنحرف،أو على ما يلائم قيمها وما يناقضه على السواء. وعن ذلك تقول "كريستيفا " : "ليس الغريب هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها، ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب. إنه القوة الخفية لهويتنا ..."


كما نجد موقفا مشابها عند الأنتروبولوجي الفرنسي المعاصر" كلود ليفي ستراوس" الذي عرف بانتقاده الشديد لنزعة الهيمنة والإقصاء التي تميز الثقافة الغربية تجاه الثقافات الأجنبية. فهو يرى أن كل ثقافة بشرية لها مكانتها وإسهاماتها في الحضارة البشرية عموما. ويعتبر،بالنتيجة، أن التقدم الحاصل الآن في الغرب ليس إنجازا ذاتيا مستقلا عن المجهودات التي بذلتها ثقافات سابقة مهما بدت لنا بدائية. وهكذا فالعلاقة بين الثقافات ، كتعبير عن العلاقة بين الأنا و الغير، يجب أن تقوم على الحوار و الإعتراف المتبادل بالإختلاف والتمايز وليس على الإحتواء والهيمنة. لذلك يقول "ليفي ستراوس" :


" إن الإسهام الحقيقي للثقافات لا يكمن في قائمة اختراعاتها، بل في الفارق المميز الذي تكشف عنه فيما بينها. إن الشعور بالعرفان والتواضع الذي يستطيع كل عضو من أعضاء ثقافة معينة ، بل يجب عليه ، أن يستشعره نحو جميع الثقافات الأخرى، لا يمكن أن يتأسس إلا على الإقتناع التالي : أن الثقافات الأخرى مختلفة عن ثقافته اختلافا تتنوع أشكاله أشد ما يكون التنوع ، وذلك حتى وإن كان لا يدرك طبيعة هذا الإختلاف.."


هكذا يتبين أن العلاقة الأخلاقية مع الغير قد مثلت إشكالية واكبت تطور الفكر الفلسفي منذ لحظة النشأة التي تمثلها الفلسفة اليونانية، حيث نجد هيمنة لفكرة الغير القريب ، وهو ما انعكس في توجه التفكير الفلسفي اليوناني نحو التنظير لمفهوم الصداقة، بينما تقلصت أو انعدمت فكرة الغير الغريب في ظل ثقافة يونانية لا تخلو من خلفيات عبودية أو عنصرية.. ومرورا بالفلسفة الحديثة ذات النزعة الإنسانية ، والتي أضفت على مفهوم الصداقة طابعا شموليا يتجاوز حدود المجتمع الواحد لينخرط في الحياة الإنسانية، قبل أن تتبلور مشكلة الغير الغريب في سياق الفكر المعاصر الذي اتسم بالتشكيك في البداهة الراسخة نحو الغريب كموضوع للإقصاء و التدمير، وبالدعوة إلى تبني أخلاقيات الحوار و التسامح.

منقول عن

http://philo.top-me.com/montada-f92/topic-t1366.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا