الاثنين، 26 أكتوبر 2009

هابرماس والتواصل









ملاحظة هذا البحث منقول من الأنترنت ولم تتوفر في الصفحة التي نقل منها ما يدل على مؤلفها أو مصدرها أو عنوانها الأصلي











مقدمة:


يبدو أن هابرماس بقدر ما اهتم بإشكالية الحقيقة داخل تصوره العام لمسألة اللغة والتواصل بقدر ما حاول الإقتراب من ضوابط الحوار وأخلاقياته، وذالك في إطار اهتمامه الأساسي بمسألة الكلام واللغة العادية والمناقشة وادعاءات الصلاحية. ومن أجل الكشف عن مستويات امتلاك الحقيقة – من خلال النقاش وأخلاقياته، وتقييم مختلف النظريات التي حاولت معالجتها وتحديدها- انطلق هابرماس من أعمال بعض اللسانيين وفلاسفة اللغة ولا سيما أوستين وسورل وكارسكي . وقد حاول طرح مجموعة من الأسئلة التي عمل علي اقتراح بعض عناصر الجواب عنها من خلال مناقشة النظريات التي قاربت مسألة الحقيقة ولذالك انطلق هابرماس من سؤال يمكن صياغته كالتالي: ماذا يمكن أن نقول حين نتساءل: هل هذا صادق أم كاذب؟ وللإجابة عن هذا السؤال تأتي اللغة لاقتراح مجموعة كبيرة من الصيغ سواء ما تعلق منها بالقضايا Propositions بالتلفظات énonciations أو بالملفوظات énonces... ذالك أن قضايا مختلفة لنفس اللغة يمكن أن تترجم نفس حالات الأشياء، كما أن هذه القضايا مصوغة في سياقات مختلفة للخطاب يمكنها كذالك أن تترجم حالات مختلفة من الأشياء. لذالك يلاحظ هابرماس أنه أمام هذه المسالة اقترح "أوستين" "أن الموضوع الذي يمكن أن نسميه بشكل مشروع، بأنه حقيقي أو كاذب لا يتعلق بالقضايا، ولكن بنوع معين من التلفظات وهي الإثباتات assertions لأن القضية تكون فقط مكونة من كلمات بينما باستعمال هذه الكلمات والقضايا التي تكونها ندعم إثباتا معين، ويعتبر هابرماس أنه بإثبات شيء ما، فإنني أعلن عن إدعاء يؤكد أن ما أثبته حقيقي، وأن ما أدعيه يمكن أن يكون خطأ أو صوابا لأن الإثباتات لا تكون صادقة أو كاذبة وإنما مبررة أو غير مبررة.


فاختلاف النقاش يتحدد من الوجهة الإجرائية والوظيفية أساسا، فالنقاش يقتضي وجود طرفين أحدهما عارض وآخر معروض عليه، هذا النقد في التفاعلات الحوارية يعكس تعداد في الذوات المتخاطبة بشكل يسمح بتصنيف المتخاطبين إلى فئات نذكر منها ثلاثة: فالسائل قد يكون : أ- متعلما: هدفه اكتساب المعرفة والزيادة في التعلم ولهذا يرجى من الطرف الثاني أن يكون بمثابة الطبيب الذي يتحرى شفاء السقم، فيبين المعالجة على ما يقتضيه المرض لا على ما يحكيه المريض. ب- مستشكلا: يرغب في أن نوضح له ما استشكل عليه. ج- متشككا: يقوم شكه على النتيجة أو طريقة التدليل أو هما معا. وقد يكون مختصا معاندا مخالفة أو غلطا.


للإحاطة بمختلف أنواع الأسئلة التي يمكن أن تطرح، على المجيب أن يحقق جملة من الشروط التي تمكنه من تنويع الأجوبة بتعدد الأسئلة وتنوع السائل. إذا مناقشة المستشير لا تجب أن تماثل في مفاهيمها ومسائلها مناقشة المتشكل. كما أن المناقش المعاند المختص لا ينظر إليه بنفس الكيفية والطريقة التي بها ينظر المعاند الغير المختص فالمفترض أن تراعي المناقشة عدة مقتضيات من بينها مقاصد المناقشين، بحيث أن: أخلاقيات النقاش تقتضي أن يكون الجواب مدللا ومفهوما لا غلط فيه ولا تقليد.


- وأن يكون متطلبا رفع الإشكال وإزالة موضع العناد.


- يتبين مكمن الغلط في حين أن الجواب على الطالب المختص المعاند بالمغالطة تكون بالتمويه والتغليط حيث يقصد من وراء هذا اختبار مدى تمكن المعاند من صناعته. لهذا تسمى هذه المعاندة "امتحانا" ويطلق على صاحبه "السائل الممتحن". أما متى لم يتمكن المجيب والذي تم إقناعه – من الكشف عن مكمن التمويه والتغليط دل ذالك على عدم كفايته ولهذا يستحسن سد كل الثغرات التي يمكن أن ترد في الجواب والتي يمكن أن يستغلها الخصم لإتمام إضافات.


* الفروع القائمة بين أنواع النقاش وهي كما أقامها أرسطو بين أنواع المخاطبات).


أ- مخاطبة برهانية: يدور الكلام بين معلم ومتعلم، وعليه وجب على التعلم أن يلقن الحقيقة وعلى التلميذ تقليدها.


ب- مخاطبة جدلية: منها يعرض كل من المتناقشين للآراء الذائعة والمشهورة ويحاولان الكشف عن التناقضات التي تتضمنها لحلها معا. وتتألف من المسلمات أو المشهورات


ج- مخاطبة خطابية: تقوم بين من يدافع عن رأيه مستندا إلى علم يثبته ويسعى إلى أن يقتنع غيره به. إنها تلك التي تتكون من المقدمات المظنونة أو المقبولة.


د- مخاطبة سوفسطائية ومغالطة: يوهم صاحبها محاوره بأنه انطلق من مقدمات يقينية أو مشهورة ليضلله ويغلطه أو يضخمه ويلزمه شنعة، ففيها يستنبطن الشخص أمورا معايرة لما يظهره.


يستفاد من هذا أن لكل تبادل حواري أركانا تتمثل في المتكلم والمخاطب وموضوع التخاطب، وكلها تتفاعل فيما بينها لتحقيق غرض أو أغراض معينة ظاهرة أو باطنة، فتحقيق مقاصد النقاش يتطلب تدبر المنظور فيه في إطار تعاوني وضمن شروط نظرية وعملية لا يمكن بدونها أن يمر الحوار في جو سليم ويحقق النتائج المتوخاة منه وبما أن المراد الأسمى والأمثل من كل نقاش هو جلب المصالح (العامة) ودرء المفاسد (عن الكل) فإن تحقيق ذالك يتطلب رسم طريقة تحرك النظر وتتدبره بسبل عقلانية. كما أن نجاح كل تفاعل حواري يتطلب الإلتزام بقواعد مضبوطة ومحددة. وتحدد هذه القواعد بجعل منها ما هو نظري وما هو عملي وما هو عام وما هو خاص ونجمل هذه المقومات في:


أ‌- المناقشة في المجالس: قد تتخذ هذه المجالس حكما بين المتنازعين بأن يشكل مجالا للشهادة لأحد المتناظرين والشهادة على الطرف الآخر، لهذا ينصح بعضهم باجتناب مناظرة تتم في مجلس يعوق جريانها الطبيعي ولا يسوى بين المتنازعين. كما ينصح باجتناب مجالس يسودها الخوف والترهيب والإكراه والوعيد ولا تستهدف بتمييز الحق عن الباطل، ضمن أخلاقيات النقاش تفادي التعنت والتباهي والهذر، وأن يكون هدفه الغلبة فقط. أما إن لم تعلمه حتى فاتحته بالكلام فعليك إما بالإمساك عن مناظرته، أو الإحتراز منه واستخدام الأساليب التي تليق بأمثاله، فإن عرفته مغالطا أو رأيته يكرر القول الواحد أو استهزأ بكلامك فلا تتركه يميد في فعلته. وإن أصر على موقفه فبإمكانك أن تصده عن ذالك وتقاطعه. بمقتضى هذا ذهب بعض الدارسين إلى استرذال جريان المناظرة في مجالس خاصة أو عامة (أو في بعضها على الأقل) لكونها تساعد على ألا يجري المتناظران منظارتهما على عرف واحد. وفي هذا تكمن أهمية البدء بتحديد من تجلس إليه، إذا لناس فئات وطبائع.


ب‌- وجوب أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في جلب مصلحة أو درء مفسدة ولهذا قيل ما لا داعي له هذيان وما لا سبب له هجر، ومن سامح نفسه في الكلام إذاعن ولم يراع صحة دواعيه وإصابة معاينة كان قولا مرذوللا ولهذا يطلب أن يكون أصحاب الحوار (المناقشة) على علم بموضوع المناظرة والقصد منها. كما أن تمكين الخطاب من مجموع مقوماته يقتضي بناؤه بشكل يجعله يستجيب للعنصرين الأساسين التاليين:


1- أن يتوجه المتكلم إلى المخاطب بكلام، القصد منه إبلاغ الخطاب بطريقة معينة وإعلام المخاطب بأن الخطاب تم بتلك الطريقة.


2- تمكين المخاطب من التعرف على المقصود المتكلم وإن كان قاصدا إلى ذالك ولم يصدر عنه سهوا أو غلطا أو تغليطا. بحيث يتفق ما تم تبليغه مع كون هذا التبليغ تم بطريقة محددة تحصل معها السكينة لدى المتلقي.


3- أن يلزم الحضور بما فيه المتناقشين الخشوع والتواضع وأن يحفظ كل منهما قدر الآخر بتجنب استصغاره والاستهزاء به والتشنيع عليه والإساءة إليه قولا أو فعلا كما أن عليه تجنب الكذب والشبهة والرفث والعناد ولا يناظر النظير مناظرة المسترشد، بل يناظر كلا على حقه. ولا تجعل همك هو النيل من مخاطبك والظفر به وإلزامه في النقاش.


فهابر ماس يرى أنه لا يمكن الحديث عن التواصل إلا بافتراض وجود خطاب، وعالم معيش، فالتواصل خطابا سيسيولوجي وليس فلسفي ولا ميتافيزيقي، فهابرماس يفكر انطلاقا من الواقع وهو ما سماه عالم المعيش. كيف السبيل في عالم يعيش المتناقضات لقضاء تستحضر فيه النقاشات؟ فالتداول لابد أن يسند إلى لغة تداولية. فهابرماس في هذا المجال استعان بكتابات أوستين (أفعال الكلام) واستعان ببارماد (نظريات الحجاج). ولكنه لم يقتفى بدربهما وإنما حاول أن يسلك طريقا خاصا في -التعامل مع اللغة. عندما نتكلم عن النقاش الحجاجي فنحن إذن أمام نقاش صحيح. فهو النقاش الذي يكون كل واحد يريد أن يفرض وجهة نظره وبالتالي هو نقاش منظم يريد به صاحبه أن يقنع بواسطة البراهين – بصلاحية دعواه، بمعنى أنه نقاش جدي، وهو النقاش الذي يريد به صاحبه- في موضوع ما، في قضية ما- إثبات حجته.


النقاش الحجاجي الجاد هو نقاش منظم: أي أنه يروم موضوعا ما، أي إثبات صلاحية دعواه وإثبات عدالة قضية ما، بمعنى أن صاحبه لا يحاجج بسوء نية وإنما من أجل إثبات قضية ما.


لمن الحجة الأقوى بين الناس وهم يتداولون؟ هذا النوع من الحجاج الجاد يتميز بثلاث مسائل:


أ‌- ينتظم ضمن متوالية حوارية: بمعنى أن هذا الحجاج في وضع يختلف عن ما هو سردي، ولا يدخل السرد في مجال النقاش.


ب‌- بعد سياسي: لا يمكن أن نتصور نقاشا سياسيا من دون استخدام العقل، واستخدام العقل يقتضي وجود حرية التفكير وحرية التعبير ويفترض أن يكون النقاش والحجاج ضمن فضاء، لا يمكن أن يكون هناك نقاش وحوار إلا متؤسس على العقل وعلى قضية الديموقراطية.


ت‌- بعد أخلاقي: بمعنى أنه يفترض أن هناك نمط من السلوك والاحترام الذي يسمح تبادل الأفكار فيما بين المتناقشين بمعنى أن النقاش يقتضي حضور سلوك أخلاقي مستوحى من العقل العملي (القانون) من هذه الزاوية يمكن أن تقول إن هذه الأبعاد الثلاثة هي ما يميز نقاشا حججيا عن غيره من النقاشات الأخرى. فالنقاش الحججي هو الذي يقبل العقل حكما. يجب أن تخضع حججنا ودعاوينا للنقاش لأنه شرط للتراضي ولاجتناب أنواع التهكم والعنف اللغوي أو اللفظي في مستوياته المادية أو الرمزية. فأخلاقيات النقاش لا تلزمك بفعل شيء أو تركه، فهذا النقاش له طابع إجرائي، فمشروعية هذا النقاش لا تقوم إلا من خلال اختيار وامتحان دعاوي ومقدمات الأطراف، وهذه الشروط هي:


أ‌- شروط مادية: أن يظهر المتناقشان بمظهر مقبول. فمن الناس من ينظر إلى من قال لا إلى ما قيل فخلقته وهيأته تلعبان دورا أساسيا في عملية النقاش ذالك أن المستمعين يتأثرون بكل الظروف الخاصة بالنص وكيفية أدائه وإخراجه بما فيه من استغلال للصوت وإحكام للألفاظ والإشارات، وغيرها من المسائل الخاصة بهيأة ومظهر الشخص. فهذه الشروط تلعب دورا أساسيا في استمالة المستمع وجلب عواطفه حتى يتمكن القول فيه، وما دام التجاوب النفسي بين المتكلم والسامع يساعد على تحقيق الهدف فلابد للناظر من خصال نفسية تشد أزره وتقوي عزمه ليمضي في كلامه وفق ما يقتضيه المقام.


ب‌- الصدق في القول والإخلاص في العمل: ما أثبته بقولك عليك تزكيته بعملك، ولا تحاجج إلا بمالك به علم وما تعتقد بصدقه، وعليك بالسعي إلى الحق وترك الباطل ولا تتبع الهوى فتلبس الحق صورة الباطل ولا تبتغي بنظرك التكسب والمباهات، وامتنع عن الرياء والفحش وكل أسباب الفتنة والفرقة، وتجنب اللمز والمواربة والعناد، وكل طرق الاحتيال والتذليل.


ت‌- المناسبة والملائمة في الكلام: ما دام الغرض من الكلام هو الإعلام والإفهام فيجب توخي المناسبة فيه بأن تأتي به في موضعه، فلكل مقام مقال. فلا تورد في كل موضع من الكلام إلا بقدر ما تحتاج إليه .










































حقيقة النقاش والإجماع عليه


حاول هابرماس طرح مجموعة من الأسئلة التي عمل على اقتراح بعض عناصر الجواب عنها من خلال مناقشة النظريات التي قاربت مسألة الحقيقة. وأول سؤال طرحه يمكن صياغته كالتالي: ماذا يمكن أن نقول ومن ثم فإن "الحقيقة" هنا تشير إلى الاستعمال والإستقرار لأن الصلاحية المبررة لادعاء ما تضمن تحقيق انتقادات يحدثها إدعاء معين.


أما السؤال الثاني: الذي اقترب منه هابرماس فهو متعلق بما يسمى بنظرية الحقيقة التكرار ذالك أنه إذا كان صحيحا أن كل القضايا من نوع "ب صادقة" فإن تعبير "هي صادقة" غير ضروري من الناحية المنطقية وبالتالي فإن كل النظريات المتعلقة بالحقيقة ليست ضرورية. ومع ذالك يلاحظ هابرماس، أن نظرية الحقيقة- التكرار يمكن أن تعتمد على ملاحظة صحيحة وهي أنه حين نقول بأن "ب صادقة" فإن ذالك لا يضيف أي شيء إلى الإثبات "ب" لأنه بإثبات "ب" فإنني أعبر عن إدعاء على صدق "ب" وهنا يتجلى المعنى التداولي للإثباتات. إن معنى هذه العلاقة الخاصة بين إدعاء الصلاحية والإثبات الساذج أو المشكوك فيه يمكن إظهار معناه من خلال العلاقة التي توجد بين المناقشات والأفعال ذالك أن هابرماس في إطار ما يسميه ب"النشاط" يدخل مجال التواصل الذي فيه تفترض ونعترف ضمنيا بادعاءات الصلاحية المتضمنة في الملفوظات وفي الإثباتات بهدف تبادل المعلومات فتحت لفظة مناقشة أدخل شكل التواصل المتميز بالبرهنة. وهذا ما يسمح بالإجابة عن السؤال المتعلق بالحقيقة التكرار. ذالك أن هابرماس يرى أنه "حينما نكون أمام أفعال تواصلية، فإن تفسيرا لادعاء الصلاحية معبرة عنها من خلال إثباتات يكون تكرارا، لكنها في المقابل ضرورية في المناقشات.


أما السؤال الثالث: المرتبط بصلب الهاجس الذي يحرك تفكير هابرماس بخصوص الحقيقة، فإنه يتعلق بالفرضية الأساسية لنظرية "الحقيقة-التطابق" وهو يصوغ سؤاله بالطريقة التالية: "ما هي العلاقة الموجودة بين الوقائع التي نثبت وموضوعات تجربتنا؟" ويقول هابرماس إنما يحق لنا إثباته، نسميه واقعا. والواقع هو ما يشكل حقيقة ملفوظ ما، لذالك نقول بأن الملفوظات تترجم وتصف وتعبر عن وقائع". ويعتبر هابرماس أنه في سياق البرهنة يمكن أن نعتمد على التجربة. ولكن لكي نعتمد، منهجيا، على التجربة، في حالة التجريب مثلا، فإننا نضطر للرجوع إلى تأويلات لا يمكن أن تتضح صحتها إلا داخل المناقشة. وبالتالي فإن التجارب تصبح كقواعد استنادا لادعاء الحقيقة التي تعبر عنها التأكيدات. وطالما لا نواجه تجارب غير مطابقة، فإننا نتمسك، عموما بهذا الإدعاء للحقيقة. غير أن هابرماس يرى أن كل ذالك لا يكتسب مصداقيته إلا بواسطة براهين لأن إدعاء مؤسسا على التجربة ليس إدعاء مبررا بشكل مباشر. ويعترف هابرماس أن مفهوم الحقيقة في التراث الفلسفي كان دائما يأخذ بعدا أكثر تجريدا واتساعا مما يسميه ب"حقيقة الملفوظ" وكثيرا ما اتخذت الحقيقة معنى "العقلانية" غير أن هابرماس يحدد ما هو عقلاني ليس فقط بالإثباتات، ولكن أيضا بنماذج أخرى من أفعال الكلام مثل المعايير والأشخاص. ويعتبر هابرماس أن هناك على الأقل أربع أنواع من إدعاءات الصلاحية وهي المعقولية، الحقيقة، الدقة، الصحة وهذه الإدعاءات تشكل كلا يمكن تسميته ب"العقلنة" ولهذا السبب يرى هابرماس أن "نظرية إجمالية للحقيقة" يجب أن لا تقتصر على حقيقة الملفوظات لأن المسألة تدخل فيها اعتبارات الدقة والصدق والمعقولية.ثم إن الإجماع يكمن، بالضبط في كون هذه الإدعاءات الأربعة يجب أن يكون معترفا بها من طرف المتكلمين المشاركين في المحاولة أو المناقشة.


وهكذا يمكن أن تدعى معقولية التلفظ، وحقيقة تكوينه القضوى، ودقة تركيبه التلفظي وصدق النية المعبر عنها من طرف المتكلم" ومن ثم فإن تواصلا غير استراتيجي، أي ذالك الذي يحصل فيه تفاهم سيجرى بدون اصطدام .


ويلاحظ هابرماس أن هذه الإدعاءات الأربعة للصلاحية ليست كلها قابلة لأن تبرر بواسطة المناقشة إذ أنه لا يمكن أن نعتبر "الإستنطاقات" أو الحوارات التحليلية بين المريض والمحلل مناقشات في اتجاه البحث التعاوني عن الحقيقة، لذالك فإن هابرماس يميز "الصدق" بوصفه إدعاء للصلاحية غير خطابي عن إدعاءات الصلاحية الخطابية التي هي "الحقيقة" و"الدقة"، غير أن الأمر لا ينطبق على إدعاء المعقولية.


فعندما تكون القواعد لغة المستخدمة من طرف أحد الأطراف غير واضحة بما فيه الكفاية ولا يفهم القضايا الملفوظة (على المستوى الدلالي، النحوي بل وحتى الصوتي) فإن كلا الطرفين يمكنهما أن يتوصلا إلى اتفاق حول اللغة التي يستعملان بهذا المعنى، فإن المعقولية يمكن أن تحسب مع إدعاءات الصلاحية الخطابية" . ومع ذالك فهناك اختلافات بين مستويات إدعاءات الصلاحية الخطابية. ففي الخطاب اليومي وفي إطار من التفاعل، فإن إدعاءات الحقيقة والدقة تستغل باعتبارها إدعاءات تكون مقبولة أخذا بعين الإعتبار إمكانية تبريرها بواسطة المناقشة عند الإقتضاء، أما المعقولية فهي ضرورة ما دام التواصل يتم بدون صدام وبالتالي فإنها ليست مجرد وعد. لذالك يحسب هابرماس المعقولية من بين شروط التواصل وليس من بين إدعاءات الصلاحية المعبر عنها داخل التواصل سواء كانت خطابية أو غير خطابية، ولذالك فإن هابرماس يرى أنه من الضروري ضبط الروابط الموجودة بين إدعاءات الصلاحية من جهة والنوايا وتجارب اليقين المقابلة لها من جهة ثانية. لأنه حينما أفهم أو أعرف شيئا ما، أو عندما أعترف بصلاحية هذا الشيء، أو حين أصدق شخصا ما، فإنني أكتسب، في كل مرة، أشكالا مختلفة من اليقين، وهي مختلفة لأن إدعاءات الصلاحية تختلف عن اليقين بطابعها الذي تكون فيه الذوات متفاعلة ومتداخلة. ومع ذالك فإن هابرماس يرى أنه حين أعبر عن إدعاء الصلاحية فإنني أكون متيقنا من ذالك، أي أنني أحوز يقينا من تعبيري عن هذا الإدعاء. ولذالك فإنه يخلص إلى أن الحقيقة تتحدد بالبرهنة مقرا أن البرهنة لا يمكن أن تدعى الوصول إلى مستوى القوة الإجمالية إلا ذا ثبت أنها لا تكتفي بالاعتماد على علاقة ما بين نسف لغوي والواقع، أي على علاقة المطابقة والملائمة.


إن الأمر عند هابرماس لا يتعلق بالالتجاء إلى نظرية الحقيقة –التطابق، وإنما يعتبر أن تقدم المعرفة لا يمكن أن يكون إلا في شكل نقد أساسي للغة، بل إنه يذهب بعيدا في سياق التأكيد على النظرية الإجمالية للحقيقة. فالإجماع هو نتاج مواقف وممارسات متفاوض عليها، وبالتالي فالحقيقة ليست تتويجا لتأمل منعزل كما هو الحال في التراث الفلسفي الميتافيزيقي، كما أنه ليست هناك حقيقة واحدة أو مطلقة، لأن الحقيقة المثالية ليست إلا كذبا أو إدعاءا زائفا يخفى وراءه مصالح محددة.


لذالك فالحقيقة عند هابرماس لا تنفصل عن رهانات الكلام واللغة المتداولة، بل إنما تنبعث من داخل المحادثات وصيغ التبادل، الهادئ تارة والساخن تارة أخرى، الذي يحصل بين الذوات المنتجة للتواصل ومن هذا المنطلق فإن هابرماس يساهم بنظريته الإجمالية للحقيقة في "جنازة" الحقيقة المتعالية وفي الوهم الدائم بامتلاك الحقيقة الواحدة ولا سيما في زمن خلقت فيه الحداثة صيغا متعددة للحوار وللصراع ومجالا عموميا له آليات تكشف عن مختلف الحقائق في سياقات ومجالات للقول متحركة دوما .


وفي المحصلة نقول إن النقاش هو أساس التواصل وأن التواصل عند هابرماس غدا الفاعلية الوحيدة التي في إمكانها إعادة ربط الصلة بين أطراف هذا العالم متقطع الأوصال، عالم فقد كل مرجعياته ونقاط ارتكازه، وانقطعت صلة الحميمة بالإنسان، وعوض التقدم والمحبة والسلام ساد الاستبداد والعنف، حتى صار هذا العنف كما يقول إريك فاي موضوعا محوريا من مواضيع الفلسفة في المرحلة المعاصرة. إن المفارقة الكبرى، وهذه اللحظة ربما تمثل اللحظة الثالثة في تراتبية اللحظات المؤثرة – سلبا- في مبحث فلسفة التواصل، هي أن هذا التواصل الأصيل الذي نفتقده جميعا، وليس هابرماس وحده يتم على مرأى ومسمع من الثورة الكبيرة التي يعرفها عالم الإتصال والإعلام بمعناه الإبلاغي الآلي المباشر. ثورة شملت كل مناحي الحياة في أدق دقائقها، ووصلت إلى أبعد نقاط الأرض وأكثرها انعزالا. أليس هذا التناقض الواضح بين تواصل إنساني مرغوب ولكنه مفقود، وبين وفرة إعلامية شكلانية جعلت الإنسان أكثر غربة، بل أكثر اغترابا وأقل تواصلا. هنا مكمن الخطر الذي كان قد تنبأ به عالم المستقبليات والسوسيولوجي الأمريكي ألفين توفلر. ومن هنا فإن التجربة التواصلية تأتي من العلاقة التفاعلية التي تربط شخصين، على الأقل داخل العالم المعيش وفي إطار من التوافق اللغوي والتذاوتي. ومن ثم فإن كل شخص أو فاعل يملك القدرة على الكلام والفعل يمكنه أن يشارك في التواصل، وأن يعلن إدعاءاته للصلاحية، لكن شريطة أن يراعي مقاييس المعقولية والحقيقة والدقة والصدق.


إن التجربة التواصلية تأتي من العلاقة التفاعلية التي تربط شخصين على الأقل، داخل العالم المعيش وفي إطار من التوافق اللغوي والتذاوتي. ومن ثم فإن كل شخص أو فاعل يملك القدرة على الكلام والفعل يمكنه أن يشارك في التواصل، وأن يعلن عن إدعاءاته للصلاحية، لكن شريطة أن يراعي مقاييس المعقولية والحقيقة والدقة والصدق. وتأكيد هابر ماس على هذه المقاييس يرجع سببه إلى إلحاحه على قضية التفاهم داخل مجال عمومي حديث لبلورة نوع من "النظرية الإجمالية للحقيقة" من جهة، وإلى حرصه على نسج علاقات تواصلية غير خاضعة لأي نوع من أنواع الضعف والسيطرة من جهة أخرى. ولذالك فإن نظرية الفاعلية التواصلية، بالرغم من تأكيدها على أهمية التفاعل اللغوي أو بسبب هذا التأكيد، فإنها تؤدي إلى التفكير في شروط إمكان ما هو مجتمعي نفسه، وبالتالي إلى التفكير في المجتمع بصفة عامة.


فالهدف من التفاهم هو الوصول إلى نوع من الاتفاق يؤدي إلى التذاوت المشترك وإلى التفهم المتبادل وإلى التقارب في النظرات والآراء وهذه الأبعاد من التذاوت تقابلها ادعاءات للصلاحية تتمثل في المعقولية والحقيقة والدقة والصدق والتي يستند عليها كل شكل من أشكال الاتفاق، ومن ثم فإن"التفاهم هو العملية التي من خلالها يتحقق اتفاق معين على الأساس المفترض لادعاءات الصلاحية المعترف بها باتفاق مشترك.


























































المراجع المعتمدة


1*محمد نور الدين أفاية - الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة ، - نموذج هابر ماس، إفريقيا الشرق، المغرب، طبعة ثانية 1998، ص82






2*حسان الباهي، الحوار والمنهجية التفكير النقدي، إفريقيا شرق، طبعة 2004، ص:31.


3*جان مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة عمر امهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر 2006، ص:75.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا